حتى في الحروب رغم بشاعتها ونتائجها الكارثية من هدم وقتل وتدمير فإنها تتوفر على كثير من الشروط والأعراف السائدة، من حفظ لحق المدنيين المسالمين، والنساء والأطفال، وحقوق الأسرى، كما أن للحروب عادات و"سلوما" قديمة تعارف عليها الناس منذ الأزل، وهي كذلك عند العرب في الجاهلية، وفي الإسلام الذي جاء ليقر هذه الحقوق ويزيد عليها.. لكن حروب العصابات والفرق المارقة هي التي تكسر هذا التابوت، وتخرق ناموس العرف، لأنها لم تصل للحكم أصلاً إلا وفق الانتهازية التي تقوم عليها أساليب العصابات العائلية أو المذهبية أو العرقية. ولهذا فإننا نلمس غياب قيم وأخلاقيات الحرب في الثورة الدائرة الآن داخل سورية، لأن الحرب التي يشنها النظام بلا هوادة إنما تتكئ على هدف واحد هو المحافظة على كرسي الحكم وحرق كل ما سواه.

ومنطق هذه العصابة هو التضحية ـ إن اقتضى الحال ـ بكل الشعب السوري وتنويعاته وأطيافه في سبيل بقاء القلة من أفراد النظام، والمحيطين المنتفعين بامتيازات الكرسي، ولهذا السبب فقد أطلق النظام يد الشبيحة بسلطات مطلقة تخول لهم ذبح من شاءوا.. واغتصاب من يشتهون.. والخيار لهم بعد الاغتصاب في نحر المغتصبة أو إطلاقها.. ويمكنهم قتل من يعترض برصاصة واحدة، كما أن لهم الحق في إطالة مشهد القتل على مرأى المجاميع المذعورة، حيث يتولى أحد الشبيحة بحراسة رفقائه ركل المواطن ثم لكمه، ثم ضربه في كل موضع.. ثم طعنه في أكثر من موضع حتى ينزف من كل مكان.. ثم يختم المشهد المروع بنحر عنقه بالسكين.. هكذا هو حال البشر عندما لا تحكمهم شريعة أو يضبطهم قانون، ولطالما تم تشبيه ما يحدث بقانون الغاب، مع أن الحيوانات إنما تتصرف بفطرتها وغريزتها في الحفاظ على حياتها واستمرار عيشها، وقد صارت مشاهد الشبيحة وفعلاتهم ضمن أكثر الأفلام مشاهدة في قناة "يوتيوب" وهم إنما يقومون بتصوير هذه الأفعال الفاضحة رغبة في ضبط الثورة، ونشر الخوف، وتثبيط الهمم.. لكنها على غير ما شاءوا: زادت جذوة الثورة وفضحت النظام بأسرع وأقوى مما تخيل، حتى صار موضوع الشبيحة واحدا من أكثر المواضيع تشويقا وطرقا في وسائل الإعلام التقليدية والوسائط الحديثة العربية والأجنبية.. ومن ذلك ما نشرته جريدة "الديلي غراف" في تقرير ميداني لمراسلتها في سورية (شيرلوك) التي تيسر لها الالتقاء بعدد من "الشبيحة" واستطاعت تسجيل آرائهم وأدوارهم، ومن خلال الصراحة التي تصيب عادة من يشعر أنه ليس بناج من الموت فقد تمخضت عن اعترافات مثيرة من أحد الشبيحة في أحد مراكز الاحتجاز لدى الجيش السوري الحر حيث قال إنه مقـابل 300 جنيه استرليني في الشهر علاوة على 100 جنيه استرليني مكافأة لكل شخص يقتله فقد أصبح قاتلا مـأجوراً للأسد، ويقول إنه استمتع بكل دقيقة أثناء قيامه بدور الشبيح! ثم أضـاف في حديث يخلو من الندم: نحب الأسد لأنه منحنا السلطة والقوة، فإذا أردت أن أسلب شيئا أو أقتل أحدا أو أغتصب امرأة فإنه لا شيء يمنعني.. ويضيف: كـانت الحكومة تمنحني 30 ألف ليرة سورية في الشهر إضافة إلى مكافأة عشرة آلاف ليرة مقابل كل أسير! ويقول: اغتصبنا أنا وقائدي العديد من الفتيات.. إنه أمر عادي!

وتضيف المراسلة (شيرلوك) أن الكثير من الشبيحة يبدون كـ(أرنولد شوارزينجر) عرب حيث يتميزون بعضلات ضخمة، وربما أن هذه البنية الجسمانية القوية هي التي صارت تسهل الاستدلال والقبض.

ويواصل الشبيح حديثه: كثير من أصدقائي شجعوني في البداية للانضمام معهم بعدما ترددت كثيرا، لكن القريبين من قريتي من قاعدة القوات الجوية أقنعوني، وقد بدأت بالإبلاغ عن المعارضين للأسد وألقيت القبض على بعضهم وسجنتهم، ثم أعطتني الحكومة مسدسا.. وهكذا ـ تقول شيرلوك ـ وجد نفسه وهو ابن العشرين ولديه المال والسلطة وأنه معفى من القانون.. ثم وصف الشبيح لشيرلوك واحدة من حوادث الاغتصاب التي مرت به، يقول: كانت طالبة في جامعة حلب وكان الوقت نهارا، وكنت أقوم بدورية في السيارة مع رئيسي وكانت تسير في الشارع، قلت لرئيسي: ما رأيك في هذه الفتاة ألا تراها جميلة؟ وأضاف: أمسكنا بها ووضعناها في السيارة وقدناها لبيت مهجور واغتصبناها نحن الاثنان، وبعدما انتهينا قتلناها! كانت تعرف وجوهنا وتعرف جيراننا، ولهذا أصبح قتلها ضروريا.. ويذكر أيضا أنه استمر على هذا الحال لعدة أشهر إلى أن قتل متظاهرا في حلب، واستمر الحبل على الجرار كما يقول.. ثم يختم بأنه لا يهمه في المقام الأول الدفاع عن بشار أو عن العلويين الذين ينتمي لهم، وإنما كل ما كنت أريده أن يكون لدي سلطة أتمتع بها في كل ما أشاء.. حيث أشعر أنني الأعلى، فلا قانون فوقي ولا رادع يمنعني.. إنه شعور لذيذ لا يضاهيه شعور..!

هكذا هي فرق الموت تأتي على حين غفلة من الزمن فتحكم الناس بالقسر والجبر والحديد، لكنها لا تلبث أن تزول ملعونة ملفوظة من كل الدساتير والأعراف والأخلاق والقيم البشرية التي تواطأت على القانون والنزول عند أنظمته وأوامره ونواهيه، واستحضار كل متجاوز يخرج عن السائد ومعاقبته.

ستظل قصص الشبيحة المدونة قلمياً وفلمياً حكايات تروى عن بشاعة البشر، ودلالات قصوى على ضرورة احتكام الناس سواسية أمام القانون دون تركها نهباً للغرائز والأهواء.