في عام 1904 قدم العالم البريطاني هالفورد ماكيندر الذي يعد أحد الآباء المؤسسين لعلم الجغرافيا السياسية (Geopolitics) نظريته التي أطلق عليها "قلب العالم"، التي تتلخص في تقسيم العالم إلى ثلاث مناطق جغرافية أساسية تمثل الهضبة الأوراسية فيها قلب العالم (وهي المنطقة الممتدة من شرق أوروبا مرورا بوسط آسيا وحتى شرق الصين)، وطبقا للنظرية فإن من يتحكم في هذه المنطقة يتحكم في العالم كله. هذه النظرية الكلاسيكية في العلوم السياسية ومدخلا مهما لدراسة المفاهيم الجيو ـ سياسية التي تظل حاكمة لكثير من تفاعلات السياسة اليوم. منطقة وسط آسيا تحديدا التي تقع في "قلب العالم" تعود اليوم لتتصدر الأهمية السياسية للقوى العالمية المتنافسة، فهي المحور الذي ترتكز عليه اليوم القوى الكبرى (شرقا الصين، شمالا روسيا، جنوبا الهند، غربا أوروبا والولايات المتحدة امتدادا). والمتابع لمجريات تطور واتجاهات السياسة العالمية تجاه هذه المنطقة يستطيع أن يستشف مدى الأهمية الكبرى التي ستحظى بها خلال العقود القادمة، وما يؤهلها لأن تتحول لمنطقة الصراع والتنافس الرئيس بين الدول الكبرى. في هذه المعادلة تعد أفغانستان مفتاح قلب منطقة وسط آسيا، وبالامتداد مفتاح المعادلات السياسية المتشابكة والمعقدة هناك، ويمكن الحصول على لمحة لواقع السياسة في تلك المنطقة من خلال النظر في خريطة السياسات النفطية التي تتقاطع عندها وبالأخص أفغانستان. على خريطة العالم يوجد حزام نفطي يمتد شمالا من روسيا مرورا بكازخستان ومنطقة بحر قزوين إلى إيران والعراق ووصولا للسعودية والخليج جنوبا، يشكل هذا الحزام المنطقة الأساسية الغنية بالطاقة في العالم ومحور إنتاجه وتصديره الرئيس، وعلى جانبي الحزام يقع مستهلكو النفط الرئيسيين سواء الصين والهند شرقا أو أوروبا والولايات المتحدة غربا، ويمثل الوصول لمصادر الطاقة هذه ساحة التنافس الأهم بين القوى العالمية، إلى جهة الغرب مثل مشروع خط أنابيب نابوكو الذي بدأ التفكير فيه منذ 2002 حلما لمحاولة فك احتكار روسيا لإمدادات الغاز الطبيعي لأوروبا، حيث إن روسيا المورد الأكبر للنفط والغاز لأوروبا، ويمثل هذا الأمر ورقة ضغط سياسية طالما استخدمتها روسيا ضد أوروبا من خلال قطع إمدادات الغاز. خط أنابيب نابوكو من المفترض أن ينقل الغاز من الحقول الغنية في أذربيجان عبر تركيا ومنها إلى أوروبا، ولكن هناك الكثير من الشكوك التي تحوم حول جدوى المشروع، سواء بسبب الوضع الاقتصادي الأوروبي أو بسبب حجم الغاز الذي يمكن نقله، وهو ما تسبب في طرح أفكار أخرى منها مقترح إيران للانضمام كمورد للغاز عبر هذا الخط، كون إيران صاحبة ثاني أكبر احتياطي غاز في العالم بعد روسيا، وهو أمر تسعى إليه إيران بقوة، أو مقترح مد خط أنابيب عبر بحر قزوين يصل بحقول الغاز في تركمانستان التي وضعتها الاكتشافات والتقديرات المؤخرة في المرتبة الثالثة عالميا في حجم احتياطيات الغاز متفوقة على قطر.

بحر قزوين يمثل الجائزة الكبرى، فكازخستان المطلة عليه تشير بعض التقديرات مؤخرا إلى أن حجم احتياطي النفط لديها قد يصل إلى 100 مليار برميل، والصين التي تجاورها شرقا استبقت ذلك ببناء خط أنابيب لنقل النفط الكازخي إليها يمر من أوزبكستان، وهو نفس الخط الذي ينقل الغاز من حقول تركمانستان أيضا. واردات الصين من الغاز التركماني ارتفعت بنسب كبيرة جدا من 5 مليارات متر مكعب في 2010 إلى 24 مليار متر مكعب في 2012 ومؤخرا في قمة "مجموعة شنغهاي" من نفس العام وقعت كل من الصين وتركمانستان اتفاقية إطارية لرفع الواردات إلى 65 مليار متر مكعب خلال الأعوام القادمة. وعلى ضوء هذا النهم الصيني للطاقة من المنطقة برز مشروع خط أنابيب جديد يصل تركمانستان بالصين من خلال المرور بشمال أفغانستان وطاجيكستان. يقابل هذا نهم كبير للطاقة من قبل الهند، التي كانت تضع خططا لمشروع خط أنابيب لنقل النفط والغاز من إيران عبر باكستان وإليها (خط IPI)، ولكن التواجد الأميركي في أفغانستان دفع لإحياء مخطط أساسي لنقل الغاز من تركمانستان عبر أفغانستان وباكستان حتى الهند وهو مشروع خط تابي (TAPI).

أفغانستان هنا أصبحت محور ارتكاز للقوى المختلفة بسبب هذه المشاريع والمصالح المتضادة، الصين مثلا لديها خط آخر لنقل الغاز من تركمانستان، ولكن حاجتها للخط الذي يمر من شمال أفغانستان يخدم مصالحها بعيدة الأمد في تثبيت دعائم قوتها في المنطقة، إضافة لقطع الطريق على الولايات المتحدة الداعمة لمشروع خط تابي، في المقابل فإن خط الأنابيب من إيران إلى الهند يواجه صعوبة موقف إيران الدولي والعقوبات المفروضة عليها من حلفاء الهند نفسها. خط الغاز الجديد المقترح عبر شمال أفغانستان سينهي احتكار روسيا لأغلب خطوط نقل الغاز التركماني وبالتالي سيفقد مشروع خط الغاز العابر لسيبيريا جدواه، وهو الذي كانت تطمح روسيا أن يتم إنشاؤه لإمداد الصين بما تحتاجه من غاز عبر روسيا، وليس عبر دولة أخرى، حيث عرضت روسيا تزويد الصين 68 مليار متر مكعب من الغاز سنويا، وهو ما ينهي اعتماد روسيا الكبير على السوق الأوروبية، ويقطع الطريق على الصين في منطقة وسط آسيا.

أفغانستان نفسها مطمع كبير نظرا لما تحتويه من ثروات ومعادن قدرت وزارة الدفاع الأميركية قيمتها بترليون دولار، ولكن أهميتها الأكبر الآن هي إرساء الاستقرار في منطقة حيوية، فانزلاق أفغانستان نحو الفوضى مجددا أو وصول مجموعة جديدة للحكم بتوجه مختلف قد يؤثر على حسابات اللاعبين في المنطقة كل بحسب موقعه. خط تابي الذي يقطع أفغانستان من شمالها إلى جنوبها وصولا إلى الهند مرهون باستقرار أفغانستان، حيث يمر الخط بمنطقة القبائل البشتونية، بينما خط الغاز الذي يمر بشمال أفغانستان نحو الصين يقع في منطقة "تحالف الشمال" بعيدا عن أي نفوذ محتمل لطالبان أو غيرهم، وبالتالي فإن انفصال الشمال الأفغاني أو عودة طالبان في الجنوب له حسابات مختلفة في الصين عن تلك التي في الولايات المتحدة والهند اللتين تريدان استقرار واستمرارية وحدة أفغانستان. وهي حسابات تختلف عن تلك التي في روسيا أو إيران اللتين يمثل عدم الاستقرار النسبي في أفغانستان مصلحة لهما. لكل دولة مصلحة مختلفة في أفغانستان، وهي مصالح متضادة قد تقود بالضرورة لنشوء صراع جديد عليها. المملكة كدولة لها ثقل ودور تاريخي في أفغانستان، وقفت لمدة طويلة موقف المتحفظ مما يجري مبتعدة عن المشهد قدر المستطاع، ومؤخرا عادت للدخول على خط التفاوض مع قادة طالبان من أجل إرساء السلام والاستقرار هناك. ولكن إدارة مصالح المملكة في أفغانستان مستقبلا مرهونة بحفظ التوازن مع الحليف الباكستاني وكل من الصين والهند اللتين تربطهما بالمملكة علاقة مهمة، وهو توازن لن يكون سهلا في ظل بيئة سياسية مشحونة من كل الدول الكبرى التي لها تواجد هناك، ولن يتم هذا دون رؤية استراتيجية واضحة للمملكة حول ما تريده فعلا من أفغانستان ومصالحها هناك، وليس فقط المشاركة في مفاوضات سلام واستقرار وقتية.