خرجت من سرمين مع وجود أنباء عن تحركات عسكرية قد تستهدف مدن الشمال السوري وقراه ولم نكن نعرف إلى أين سيتجه الهجوم تحديدا، وما إن وصلت إلى بنش بمعية مرافقي من الجيش الحر محمد العقلا حتى اتجهنا لمقابلة قائد الجيش السوري الحر في المدينة "أبو سلمو"، الذي كان يصلي في الجامع الكبير الذي يعتبر من أقدم الجوامع في هذه المدينة، ويعود بناؤه إلى العهد الروماني، وكان كنيسة إلى أن تحول إلى مسجد في عهد الخليفة الراشد عمر بن الخطاب.

في الطريق كنت أراقب المتاريس البسيطة التي ذكرتني بتلك التي شاهدتها في سرمين والتي يصعب بقدراتها البسيطة أن تواجه آلة حرب كبيرة بلا أخلاق ولا إنسانية ويتنافس عناصرها على تقديم ولائهم للقائد الأسد من خلال تكريسهم للقتل والاغتصاب والتنكيل بالضحايا. فكرت في مصير هذه المدينة الحالمة المحاطة بكروم الزيتون والقريبة من إدلب التي تصارع نفوذ الجيش النظامي شبرا شبرا.



حوار ساخن

آثار طلقات نارية وانفجارات ومنازل محترقة ومحال مدمرة، وصلنا الجامع الكبير تقدم مني رجل دين وضابط جيش ومعه ثلاثة جنود لا يحملون أي رتب، وكان العناق المفاجئ من "أبو سلمو" الذي عرفني ولم أعرفه لكنه عانقني وقال "إخواننا السعوديون، لم يقف معنا أحد غيركم ورجال الدوحة صدقا أنكم آخر العرب العاربة، ولو أنكم قصرتم معنا في السلاح والذخيرة لكننا نقدر أن أميركا لا تريد أن تسلحونا بدعوى أن عناصر القاعدة موجودون معنا".

لم أفوت الفرصة فسألته "هم موجودون بالفعل؟" فقال "أنت جئتنا من سرمين هل قابلت غير السوريين؟" فقلت "لا"، فرد ضاحكا "إذا كنا نحن السوريين الذين ندافع عن مدننا لم نجد طلقات لبنادقنا ولم نجد طعاما ولم نجد أدوية فمن هو المنتحر المجنون الذي سيأتي ليقاتل معنا بأظافره وسكاكين المنازل".



أين القاعدة؟

سألته بحدة "إذاً لا يوجد أبو طلحة وأبو قتادة وأبو محجم ولا قاعدة تدعمكم؟". قال "أتحداك أن ترى مقاتلا عربيا واحدا في كل سورية. القاعدة قياداتهم في إيران، سيف العدل وغيره من قيادات التنظيم وعوائلهم هناك ويتزوجون هناك، وأطفالهم هناك، ومراكز تدريبهم بالقرب من الرمل الفلسطيني في اللاذقية، القاعدة متحالفة مع إيران ومع الأسد وكان عندهم مشروع متكامل في العراق وفي لبنان واليمن وفي كل مكان. لقد سمعت شهادة هيلاري كلينتون أمام الكونجرس وهي لا ترى في دعمنا في الجيش الحر حتى لا تصل الأسلحة للعناصر الإسلامية".



مقاتلون من كل الأديان

قلت له "تخوفهم منطقي لا يريدون تكرار تجربة أفغانستان"، فقال "أفغانستان ليست سورية ونحن ندافع عن منازلنا ونريد الحرية فقط وهذا العسكري الذي يقف خلفي علوي والذي يقف هناك ويحرسني مسيحي"، وصرخ ينادي الجندي "تعال يا عسكري، شو اسمك الأول ورتبتك وقطاعك اللي انشققت عنه"، فرد العسكري بعد أن ضرب التحية "مجند سركيس خوري من المدرسة العسكرية الجوية مجند كتيبة الشهيد حذيفة الخطيب"، ثم قال لي أبو سلمو "سركيس مو أبو طلحة نحن أعدنا بناء الهيكلة العسكرية ونلتزم بالرتب العسكرية ومرجعيتنا العسكرية والأقدمية. أميركا لا تريد مهاجمة الأسد لأنه يحمي إسرائيل اسمع صوت الأزيز، هذه طائرات استطلاع إسرائيلية مما يعني أنهم سيهاجموننا قريبا وقد يكونون الآن يصورون موقعنا هذا ليكون هدفا للقصف".

قلت له "والمتطوعون والمجندون والهاربون من الخدمة العسكرية كيف تتعاملون معهم؟"، فقال "نعتبرهم مجندين ملتزمين بالتدريب والأوامر العسكرية ولهم قائد. ولا يوجد متطوعون عرب أو أجانب. فقط سوريون. هذا قرار القيادة العسكرية العليا".



للتخفي أسبابه

سألته "لماذا تخفي اسمك"؟ قال "ألا تعلم ماذا فعلت مخابرات القوات الجوية في زوجة وعائلة العميد الركن المنشق فايز عمرو. لقد اختطفتهم وعذبت غيرهم واغتصبت بناتهم وأحرقت منازلهم. نحن لا نخاف لكننا نعرف هذا النظام القذر ونعرف المأزق الذي يعيشه ويدفعه لمزيد من القذارة".



وحدة وطنية

هنا تحدث عالم الدين الذي كان صامتا طوال الوقت. وقال "يا بني انقل عني وعن كل البشر في سورية مسلمين من شيعة وسنة ودروز وعلويين وإسماعيلية وكل المسيحيين كل عربنا وأكرادنا، نحن نقتل بالمجان، واقعنا مرير ونتعرض لهجمات بربرية من الجيش الأسدي الغاشم والصمت الإسلامي والعربي والدولي الواضح، والمؤتمرات الفاشلة للعالم في ما يخص الشأن السوري والتي تدفع النظام لاستغلال الفرص والوقت لذبح الشعب السوري الذي كانت جريمته أنه طالب بالتحرر من الاستعباد والحصول على كرامته وحريته". هنا صرخ شاب كان واقفا يستمع لحوارنا: "يالله ما لنا غيرك يا الله".


خبر غير سار

سار بنا قائد الجيش الحر في بنش يرينا آثار الدمار الناجم عن هجوم الجيش النظامي مرات عدة على المدينة والقصف الجوي، وبعد نحو ساعة جاء على الجهاز أن هناك هجوما واسعا على إدلب فقال لي "منذ أن أنهى النظام السوري حملته العسكرية في مدينة حمص بسبب انتهاء الذخيرة والنقص في عتاد الجيش الحرّ وخاصة في حي باب عمرو والخالدية والبياضة وغيرها من الأحياء المنكوبة التي دمرها الجيش النظامي السوري وقوى الأمن التي ارتدت ملابس عسكرية وبمشاركة من الشبيحة وقوة من حزب الله تتولى مراقبة أداء مقاتلي الجيش النظامي، مما تسبب في هجرة أهالي هذه المناطق حماية لأرواحهم وأرواح أحبائهم من عملية القتل التي سجلت في اليوم الثاني للهجوم، فكانت نتيجة العملية هجرة قسرية للمدنيين وقتل الكثير من المدنيين والناشطين وعناصر الجيش الحر".

مرت أربع ساعات لم يتوقف صوت الانفجارات التي تقترب أكثر فأكثر فقال لي "كنا نتوقع ذلك، فالجيش السوري ما إن أنهى عمليته في حمص وزيارة الدكتاتور بشار الأسد إلى المدينة المنكوبة، ووقف على دماء وأشلاء أبناء الشعب السوري، توجهت بوصلة الموت إلى إدلب التي أعلنت استقلالها عن النظام الدكتاتوري الحاكم، فتوجه الجيش النظامي بأرتال من عشرات الدبابات وناقلات الجند وراجمات الصواريخ إلى مدينة إدلب وريفها وهو الآن يقصفها دون توقف بقذائف زودته بها روسيا شريكته في الجريمة الإنسانية والتي لن نغفر لها ذلك وسننتقم منها".

سألته: "من أين يقصفون إدلب وهل الهجوم سيشمل بنش؟"، قال "بدأ هجومهم بقصف مدفعي على مدينة إدلب إضافة إلى القصف من راجمات الصواريخ الموجودة في معسكر المسطومة (5 كيلومترات جنوب إدلب)، والموجودة في معسكر النيرب سرمين (5 كيلومترات جنوب شرق إدلب، وراجمات الصواريخ الموجودة في مطار تفتناز (15 كيلومترا شمال شرق إدلب).

يتحدث على الجهاز ويقول "لا حول ولا قوة إلا بالله. هذا اليوم الهجوم كامل وكبير لم يصمد الشباب لا طلقات لديهم مقاومتنا تنهار".

لم يكن لدي شيء لأعزيه به إلا أن أهز رأسي تعبيرا عن عجزي.

في الليل أبلغني أن عليَّ الخروج إلى تركيا لأن الهجوم التالي قد يكون إلى بنش أو أي مدينة أخرى فرفضت وأبلغته بأن مرافقي محمد العقلة يؤكد إمكانية الدخول إلى إحدى المناطق التي لا تزال آمنة ضمن إدلب فقال لي بعد أن نظر نحو مرافقي بقسوة "لا شيء مضمون خسرنا مناطقنا تقريبا كلها أمام عدم التكافؤ في القوة فلم يستطع الجيش الحر الصمود طويلا، خاصة مع استمرار الحشود العسكرية الكبيرة التابعة للجيش النظامي في الوصول".



رسالة إلى العالم والعرب

وأضاف "لقد انهارت معركتنا معهم بسبب قلة الذخيرة لدى عناصر الجيش الحر وضعف مستوى التسليح الخفيف الذي يحملونه مقابل أسلحة ثقيلة جاء بها النظام، مما أجبرنا على الانسحاب حتى لا نعطي الذريعة للجيش النظامي للقيام بمزيد من تخريب البنية التحتية وقتل الأبرياء من خلال قصف عشوائي على الأبنية والمنازل. الوضع هناك سيئ لا أستطيع إجبارك على شيء لكني أحذرك، انقل للناس أن الذين يخسرون المعركة ليسوا أحرار الشعب السوري فقط، بل كل العرب، فإيران وإسرائيل وروسيا يراهنون على فشل الثورة ومزيد من تنازلات النظام لهم وهو ما سيدفع العرب ثمنه غاليا".

خرجنا في طريق وعرة على الأقدام محملين بعتاد خفيف، وقد واجهنا ثلاث نقاط أمنية للجيش السوري تسببت في دخولنا بمتاهات من الأزقة والأبواب والمنازل المدمرة. كان الظلام حالكا وصوت القذائف متقطعا هنا وهناك، كان يذكرني بأجواء الحرب لكني كنت أتذكر زميليَّ في صحيفة "الوطن" عيسى سوادي وتركي الصهيل وهما يتحدثان عن "شهيد الصحافة" فيتجدد نشاطي كي لا ينالا مرادهما واضحك. فسألني مرافقي عن سبب ما يضحكني فرويت له الحادثة قبل أن يدخل في موجة ضحك ويقول: "فعلا الله يستر"، حتى وصلنا البيت الآمن النصف مدمر.



مجزرة المشفى

قابلت عبدالله النعيمي الذي قال "لقد اقتحم الجيش المدينة من أكثر من محور وعمد إلى هدم بعض الأبنية وتخريب المحلات وقصف المشفى الميداني وتخريب ونهب الأسواق، ولم يسلم من هذا الهجوم مشفى الهلال الأحمر حيث قام الجنود بتخريب غرفة العمليات وغرف حاضنات الأطفال وتحطيم الصيدلية تماما وتكسير عبوات الدواء واعتقال الجرحى المتواجدين فيه ومن يعالجهم من الأطباء والممرضين وقام بإعدامهم أمام المشفى".

وبعد أن بسط الجيش النظامي سلطته على إدلب وضع الحواجز الأمنية بين الأحياء والشوارع ومفارق الطرق الرئيسية في كل أرجاء المدينة، وأعقب ذلك بحملات تفتيش واعتقال عشوائية ليبلغ عدد المعتقلين حتى الآن 9 الآف شخص كما قام بتصفية الناشطين والعسكريين من عناصر الجيش الحرّ تصفية ميدانية بالقتل المباشر.

سأله مرافقي عن بعض الأشخاص فقال "لقد اعتقلوا"، فبكى مرافقي وقال: "صورتهم؟"، فقال "نعم لكن هل سنعيش لنوصل هذه الصور يا صديقي"، فرد مرافقي "الله معنا فلا يمكن أن نخسر أبدا لو وقف العالم كله مع بشار".

قضينا الليل والنعيمي يحكي لنا تفاصيل المجازر التي كان شاهدا عليها وكيف رصدها وكيف كان يأخذ هواتف قتلى وأسرى الجيش النظامي التي كانت تحمل فيديو لجرائمهم حيث يتفاخرون أمام قادتهم بمدى قذارتهم. حاولت أن أغفو لكن صوت الطلقات المستمرة منعني من النوم، وصورة كلب كان يأكل من جثة رجل متوفى بالقرب من أحد الحواجز طاردتني ومنعتني من النوم".

فيما كان مشروعي محاولة الخروج في اليوم التالي من إدلب لأنهم منعونني من التصوير خوفا من كشف موقعنا والتسبب في موتنا فقررت الخروج، لكن التغيرات الميدانية لم توافقني الرأي.



غدا طريق العودة من إدلب