على متن سيارة متهالكة يرافقها مجموعة من رجال "الجيش الحر"، خطت "الوطن" أولى خطواتها داخل الأراضي السورية، وكانت البداية من قرية سرمين التي حررها الجيش الحر من فلول نظام الأسد، وباتت عاصمة رمزية للسوريين الثائرين.

الرحلة إلى داخل مناطق الموت، لم تكن سهلة أبدا، بل سبقها تخطيط ومرحلة إعداد طيلة فترة الإقامة في إسطنبول التركية، وعندما حانت ساعة الصفر، كلف قائد غرفة عمليات الجيش الحر منهل باريش مجموعة من رجاله الموثوقين لمساعدتنا في دخول الأراضي السورية.

وصلنا إلى قلب مدينة سرمين في الواحدة فجرا، غير أن بلوغ هذه القرية الحدودية لم يكن مفروشا بالورود، حيث تطلب تجاوز التشديدات الأمنية التي فرضها الأتراك على حدودهم مع سورية.

كانت أصوات الاشتباكات وتبادل إطلاق النار تضج في أرجاء سرمين، التي كانت تتهيأ وقت الوصول إليها إلى صد عمليات للجيش النظامي السوري، بعد بلوغ معلومات عن قرب عملية سينفذها النظام ضد القرية، لإعادة السيطرة على شمال سورية منعا لتحقيق هدف إقامة المنطقة العازلة على الحدود السورية التركية.

جولة "الوطن" داخل سرمين السورية، التي كانت تباهي بأنها مدينة الـ300 جامع في وقت من الأوقات، كشفت عن حجم الدمار الذي لحق بها، وفي تلك الأثناء تجمع عشرات السوريين للتظاهر بالقرب من حطام تمثال للرئيس السوري الأسبق حافظ الأسد، حينها كان الجيش الحر يقوم بمهامه في عملية حماية التظاهرة وتأمينها ضد أي استهدافات محتملة.




عشرات الأفكارالسوداء دارت في خلدي وأنا في طريقي "لمقهى الثوار" في إسطنبول لترتيب انتقالي إلى أنطاكيا لإجراء حوارات ودخول المخيمات ثم كسر حاجز الصمت والخوف والموت السوري، ودخول المدن السورية لنقل حقيقة الوضع هناك. مخاوفي كانت تتركز حول إلقاء القبض عليّ واستغلال الإعلام السوري لهذا الموضوع سياسياً، لكن فكرة نقل تقرير عن حقيقة الوضع والإجابة على أسئلة صعبة كانت النور الذي انتصر لتنفيذ هذا المشروع الصعب.


اللقاء الأول... حذر وحماس

وصلت "مقهى الثوار"... ممرات ضيقة لا توحي بأن هناك مقهى في آخر الرواق الضيق. وصلت إلى الساحة، صعدت البرج الضيق وقابلت منهل باريش عضو المجلس الوطني السوري الذي كان القائد لغرفة العمليات، فهو يدير العمليات الإغاثية وتمرير المساعدات والأموال لشراء الأسلحة للثوار.. عشرات الثوار يراقبون الشخص الغريب الذي دخل المكان، وبعد نحو نصف ساعة أعلن قبول دعم مشروعي وتسهيل مهمتي عن طريق عناصر في الجيش الحر داخل سورية وعناصر تابعين له داخل تركيا. أثناء حديثي معه تلقى اتصالا، خرج من الغرفة وعاد ليجلس صامتا، تجمع نحو ثمانية أشخاص يستفسرون عن سبب الحزن على وجه قائدهم فقال "لقد قتل ابن عمي محمد".





خبر سيئ

عمّ الحزن المكان، لكن كلٌ منهم كان يثبّت الآخر ويحثه على الصبر وعدم البكاء أمام منهل كي لا يغضب. منهل كان رافعاً رأسه ومغلق العينين، قال لي وصوته به حزن كبير "لقد كسروا ظهري هذا ثاني خسارة كبيرة لي، إنه أقرب إنسان لي وهو قائد لكتيبة في سراقب، وقد طاردته المروحيات القتالية ومعه ثلاثة حتى قتلتهم جميعاً، خسارتنا كبيرة لكن العوض من الله.. كلنا مشاريع شهادة. الحمد لله على ما قضاه، الحمد لله على كل شيء لن نتوقف حتى لو متنا جميعاً نريد أن نعيش حريتنا التي ضحينا وما زلنا نضحي بكل غالٍ مقابلها".

تحدث باريش عن طموحاته، وتحدث الثوار عن التغيير وعن قصص اعتقالهم وتعذيبهم وخروجهم من القفص الحديدي ورغبتهم في العودة والحرية والأمل، ورغبتهم برؤية سورية الجديدة. كان الثوار من كل الطوائف والأديان والمذاهب والأقليات، وفجأة أنشد شاب علوي اسمه "أبو جعفر" ما يلي: "والله لنهد الجبال وننادي معها الأحرار ... ونعلي الهمة بالصوت قسما لنشيلك بشار".

معلومات ولقاءات كثيرة وترتيب لسفري لأنطاكيا.. في ذات اليوم وصلت إلى أنطاكيا، ومنها انتقلت لمقابلة مجموعة أخرى غير المجموعة التي رافقتني. وبعد ساعات من محاولة التخفي وتجاوز النقاط الأمنية التابعة لحرس الحدود التركية، المنتشرة بكثافة نجحنا في تجاوز الحدود والهروب إلى الداخل السوري بسيارتنا المتهالكة في هذه الرحلة المجانية التي قادتني في طريق لقي عليه عدد من الصحفيين حتفهم بمن فيهم صحفيون أوروبيون يحملون نوعاً من الحصانة التي لم تخدمهم مع الجنون السوري الذي يقف على رأس هرمه الأمني الشبيحة الجهلة محترفو تهريب المخدرات والأسلحة وحليب الأطفال، إلى بلد حرم فيه المواطن من كل شيء مستورد إلا إذا دفع ضريبة تذهب لجيب فواز الأسد (أبو جميل) فيما يتعلق بالتغذية وتصنيع المخدرات، أو هارون الأسد فيما يتعلق بمواد البناء، وغيرهما من أباطرة لكل مادة تدخل أو تخرج.


سرمين المحطة الأولى

وصلنا سرمين في الساعة الواحدة من صباح اليوم التالي لرحلتي.. اُستقبلنا في غرفة متواضعة أمضينا الساعات الثلاث في الحديث عن الوضع الأمني والهجمات، على صوت الاشتباكات التي تأتي من كل مكان.. في الصباح الباكر خرجت لأرى مدينة سرمين التي كان بها يوما ثلاثمئة مسجد واليوم لا يوجد بها إلا الجامع الوحيد، وهي من نواحي أدلب.. علم سورية الحرة مرفوع على النوافذ والجيش الحر يضع متاريس رملية متواضعة يقف خلفها شاب يحمل بندقية، وفي موقع آخر أربعة عناصر من الجيش الحر، واحد منهم يلبس ملابس مدنية، وهم يحملون بنادق كلاشنكوف ومضادات للدروع (آر بي جي). اقتربت منهم. أحدهم طلب مني عدم التصوير وبين لي أن المدينة محررة بالكامل، لكنها تستعد لمواجهة الجيش الذي يحاول فرض سيطرته على شمال سورية لمنع إقامة المنطقة العازلة التي يتوقع أن تركيا ستقيمها قريباً. كنت أتمنى أن أبلغه أن تركيا تراجعت كما تراجع الآخرون عن دعمهم وأعلن لهم نتائج مؤتمر إسطنبول، لكني فضلت أن أترك الأمل في قلوبهم. أبلغني عن الهجمات التي تحصل من وقت إلى آخر على القرى والمدن السورية، وما يحصل فيها من قتل واغتصاب وهدم للمنازل وعقاب جماعي للسكان. سألته "ولماذا تعرضون أهلكم لهذه المخاطر وتقاتلون داخل المدن؟"، فقال "نحن نقاتل لأجل حرية أبنائنا ومستقبلهم، فإما الحرية أو الموت، لا طريق ولا خيار ثالث لنا. لقد أحرق الأسد مراكبه وأحرق الشعب مراكبه، فإما أن يقتلنا كلنا أو نقتلهم كلهم. لا حلول وسط، ولا مساع سياسية، ولا مجلس أمن. بنادقنا في وجه مدافعهم، هم يقاتلون بلا هدف ونحن نقاتل لألف هدف، هم خائفون من الموت لأنهم كمرتزقة القذافي، ونحن نقاتل كالمجاهدين الأوائل، دفاعاً عن الأرض والعرض والوطن والأبناء والحرية.. أشياء غالية ندفع دماءنا ثمناً لها كل يوم". سألته عن المنازل المدمرة فقال "هي حكاية كل مدينة في سورية. الجيش الذي كان يفترض أن يحمينا خان الأمانة وقتلنا وهدم بيوتنا". سألته عن الأسلحة فقال "لدينا في هذا الموقع أربعة رشاشات بها 45 طلقة وقذيفتا آر بي جي"، فقلت "45 طلقة فقط لدى كل مقاتل منكم؟"، فضحك عالياً هو ومن معه وقال "كل الطلقات التي معنا كلنا 45 طلقة، لا نجد الطلقات. أنا عند انشقاقي كان معي ستون طلقة. نحن نعاني في كل مناطقنا من نقص الذخيرة والسلاح. الرصاصة الواحدة أدفع ثمنها من 12 ليرة سورية إلى 235 ليرة. نشتريها من ضباط الجيش العربي السوري الذين يخونون رئيسهم ويخونوننا وأصبح همهم الوحيد المال الذي أصبحنا نفتقده أيضاً بعد أن بعنا كل شيء لنشتري الطعام والذخيرة وبعض الأسلحة الخفيفة". سألت الشاب الذي يحمل بندقية عن اسمه وعمره، فقال "ثامر، وأنا كبير. رجال كبير عم دافع عن بيتنا". سألته: لكن الجيش السوري والشبيحة والمخابرات والأمن لديهم دبابات وطائرات حربية ومروحيات ورشاشات وصواريخ، وأنت معك بندقية ما فيها إلا بضع طلقات كيف تقاتلهم؟ فقال "صحيح أنو معهم كل هذه الأسلحة لكن أنا معي الله". قال الرجل الملثم الذي رفض الحديث في بداية اللقاء وطلب ألا نصور:"هذا الشاب آخر من بقي من شباب عائلته، مات اثنان من إخوانه أمس وجدناهما مقيدين ومقتولين خارج سرمين بطريق بنش مع سته مدرسين آخرين، ولم يكن معهم أسلحة ولم يشاركونا في المقاومة ومع ذلك قتلوهم... أعدموهم".


مشاهدات حية

قمت بجولة في المدينة المدمرة (سرمين)، التي تجمع العشرات الذين يتظاهرون بالقرب من تمثال محطم للدكتاتور السابق حافظ الأسد، وقد استنفر الجيش الحر ليؤمن حماية للمظاهرة التي أحرقت فيها صور بشار الأسد وداستها بالأقدام. سألت أحد المتظاهرين من أين تأتون بصور الأسد، فقال "كانت تحاصرنا في كل مكان. واليوم نعلن أن سرمين أول مدينة محررة من صور هذا الطاغية المجرم نيرون سورية الذي يريدها محروقة مدمرة وهناك من يساعدونه، هذه الصور جلبتها من مدرسة الشهداء. كل مدارسنا غيرنا أسماءها ونزعنا صور الرئيس منها".


المدرسة غيرت برامجها

تركت المظاهرة التي أصبحت عادة يومية للتنديد بالنظام الدكتاتوري الحاكم، والتي تقام في كل المدن والقرى السورية بما فيها العاصمة، وتوجهت للمدرسة التي وجدت أن اسمها تغير إلى "مدرسة الشهداء" ورأيت بقايا آثار لصور ممزقة.. قابلني المدير وكانت هناك نظرات شك وخوف في عينيه وقال لي "أعتذر فلا أرغب في التصوير أو ذكر اسمي. يمكن أن تلقبني بالأستاذ أبو أحمد". سألته عن التعليم والوضع التعليمي والمناهج فقال "مزقنا كل الأكاذيب التي كانت تملأ الكتب. تخلصنا من الخرافات ومزقنا صور الطاغية المجرم وغيرنا العلم في السارية وقد فقدنا عددا من معلمينا بسبب قوات الأمن التي ألقت القبض عليهم فتطوع البعض للتعليم دون مقابل".. خرجت من المدرسة وأنا أستمع إلى الطلاب ينشدون نشيداً عن الحرية بكل حماسة الأطفال وكأنهم في عالم طبيعي.



ترتيبات معقدة

توجهت لمقابلة قائد مقاتلي الجيش السوري الوطني الحر في سرمين، العقيد أبو هيثم، كانت هناك ترتيبات أمنية معقدة حتى قابلته. طلب مني ألا أشغل هواتفي النقالة خلال رحلتي لمقابلته. سألته عن الوضع فقال "كل المدن مهددة بالدمار والموت مع هذا النظام المجنون، وهذه المهلة التي تتجدد بأسماء مختلفة وهذا الدعم الروسي الصيني. هناك قتل مستمر وموت يطارد كل مواطن سوري حتى لو لم يكن من الجيش الحرّ".. ولكن لماذا لا تعلن اسمك الصريح كما هو الحال مع المنشقين السابقين في بداية الثورة؟، فقال "نظام البطش لم يعد يستهدفنا فقط ولكنه تعدى ببطشه إلى ملاحقة أهلنا وذوينا وكل من يرتبط بعلاقة بنا".. تذكرت معلومة أبلغني بها عضو المجلس الوطني عبد الإله الملحم الذي أبلغني أن طائرات استطلاع إسرائيلية تقدم معلومات للاستخبارات السورية عن مراكز تجمع الجيش الحر مما سهل توجيههم لضربات للجيش الحر. فقال أبو هيثم "نعم طائرات الاستطلاع عندما بدأت في التحرك في الأجواء السورية فرحنا بها.. توقعنا أنها أميركية تستخدم لمساعدتنا لكننا اكتشفنا بعد مراقبة أنها إسرائيلية وسهلت عمل كتائب الأسد في جبل الزاوية وحمص وحماة وإدلب، وهي من العجائب.. فقد خدعونا بدولة المقاومة وهي عميلة لإسرائيل تحمي حدودها والآن إسرائيل تدافع عنها".

انتهى يومي وقررت التوجه إلى بنش لمتابعة الوضع والذهاب إلى إدلب مهما كان الثمن.