وفيما أتذكر: فأنا اليوم أعيد رسم وتوصيف تراتيل هذا اليوم منذ أن عرفت الكتابة. بل منذ أن عرفت المدرسة. ما الذي يجعل هذا اليوم ـ جمعة حزينة ـ سنوية لا يمر على الأسرة بأثقل من وطأتها طوال أيام العام؟ لماذا مثلاً لا نبتدئ العام الدراسي، ولو للتجربة، يوم الاثنين، حتى نتفادى التراتيل النمطية التي تحدثها في النفس هذه الجمعة الحزينة. والقصة أصلاً لم تكن في الاثنين ولا في السبت. القصة تكمن في أنفسنا نحن. في الآلاف من الكوادر التي جعلت من مدارسنا لآلاف الأطفال والشباب المراهقين شيئاً أشبه بالمعتقلات رغم آلاف النداءات وآلاف الشواهد التربوية.
لماذا يكره أبناؤنا مدارسهم؟ والسبب الواضح الذي لا يحتاج إلى عظيم اجتهاد أو تعليل يكمن في تراتيل مساء هذه الجمعة الحزينة. السبب الجوهري أن هذه الجمعة الحزينة تكرر طقوسها منذ ما لا يقل عن خمسين عاماً دون أن يتدخل مجتهد لفك التباس ذلك السؤال. أطفالي الذين يتحركون هذا المساء في مساحة 600 متر مربع من منزلنا سيكونون منذ صباح الغد أسرى لما يقرب من نصف متر هي حصتهم من المدرسة. هم بالتوصيف أقرب ما يكونون إلى نفاثة هائلة على وشك الارتطام. وكل فرد من أطفالي الخمسة ينقل إلى شقيقه ذات تجاربه في اليوم الأول، عندما كان في عمر من هو أدنى منه. هي ذات الكتب المدرسية وذات المناهج وذات الحصص الدراسية الطويلة التي كان عليها الأكبر توريثاً لأخيه الأصغر. هي ذات الحقائب التي تنتقل وراثة من السابق إلى اللاحق. هي ذات الأوراق التي تبلغ في معدل اليوم الواحد 25 ورقة دراسية في سبع حصص جامدة من الحفظ والتلقين. هي ذات الفصل الدراسي المتكدس الذي يبلغ في المعدل 30 طالباً في حجرة واحدة، ونادراً جداً ما كسرت تجربتنا مع أطفالنا هذا الرقم المخيف من الحصص ومن الأوراق ومن أعداد الطلاب في الفصل. هي حصة الرياضة الوحيدة من بين 35 حصة أسبوعية. هي كل شيء في تراتيلنا المحنطة مع كل أدبياتنا الإنشائية عن تطوير التعليم وعن اختزال المناهج وعن تحسين البيئة المدرسية، وعن عام المعلم وعن كل الأشياء التي دندن بها دون خطوة حقيقية واحدة في ألف يوم، حتى بين ثلاث جمع حزينة.