تعتبر الفترات الزمنية التي يكثر فيها الإنفاق الحكومي نعمة ليس فقط للوطن وتنميته ولا لمقدمي الخدمات بل أيضاً لمن همهم وصميم عملهم وأسباب ارتفاع مداخيلهم البحث عن الفساد والرشاوي والقبض على الفاسدين. السبب بسيط ذلك أن كثرة التعاقدات وتنوع مقدمي الخدمات من مقاولين ومستشارين وغيرهم وبجميع مستوياتهم التعاقدية يجعل البيئة ملائمة لزرع المخبرين بسهولة. على أننا في المملكة ورغم ما يتم إنفاقه بمئات المليارات على مشاريع ضخمة وغير مسبوقة، لم نسمع بعد عن أي حالة قبض على راش أو مرتش في أي تعاقد. هذا يدل على وجود حالة من حالتين. إما أنه لا يوجد فساد ولا عمولات تدفع هنا أو هناك أو أننا أصلاً لم نبحث ولم نتقص ولم نبذل الجهود الكافية. والخيار الأخير يقودنا أيضاً إلى حالة من حالتين. فإما أننا عاجزون عن القيام بمهمات كهذه أو أننا أصلاً لا نرى في ممارسات كهذه مشكلة ولا نصنف من يقوم بها بالمجرم وبالتالي لا نضع الفساد ضمن مفهوم الجريمة.
الخيار الأخير خاطيء بكل المقاييس ذلك أننا وبعد كارثة سيول جدة في العام الماضي تحدثنا علناً عن الفاسدين وتطور الأمر إلى استحداث لجنة خاصة أمر بتأسيسها خادم الحرمين الشريفين ووكل عليها صاحب السمو الملكي الأمير خالد الفيصل أمير منطقة مكة المكرمة. ولا ننسى قضايا تزوير بعض الصكوك إبان تأسيس جامعة الملك عبدالله في ثول وما تبع ذلك من الإعلان عن ايقاف بعض كاتبي العدل هناك. هذا يعني أننا ضد الفساد وأننا نراه جريمة كما يراه العالم. كل ما أتمناه حقيقة أن لا تتحول هذه القضايا إلى مخدر ينسينا مهمة البحث عن قضايا فساد أخرى كبيرة. أعود وأكرر سؤآل الموضوع لماذا لم نسمع بعد عن أي حالة فساد تم الإيقاع بأبطالها عن طريق البحث الاستباقي؟.
ماهو الفساد الذي نتحدث عنه هنا وهل هو غامض ومعقد ومحبوك بطريقة يصعب اكتشافها بواسطة المتخصصين بمكافحة الفساد؟ لا أعلم. الفساد ألوان وأشكال منه الفساد المالي ومنه الإداري. على المستوى الإداري يوجد فساد في استخراج التراخيص وفساد في تزوير نسب السعودة في المنشآت ويوجد فساد في مواضيع التستر على الأجانب في ملكية بعض المؤسسات ويوجد مسؤولون وبمراتب وظيفية كبيرة في مناصب تتعارض بها المصالح وتتقاطع. كل هذا فساد ولو بدرجات نسبية متفاوتة. على المستوى المالي وهو الأخطر هناك فساد من قبيل الموافقة على تضخيم العقود مقابل عمولات. فمثلاً يمكن للمقاول الفائز بمشروع ما أن يقوم بمكافأة من أرسى عليه المشروع وذلك ببناء منزله أو استراحته مجاناً ومثل هذه القصص يتم تداولها كثيراً في المجالس بما يشبه حقيقة وجودها على الواقع. يوجد فساد في تطبيق المنح من الأراضي وذلك بمنح المسؤول عن تطبيق الأرض جزءا من هذه المنحة. هناك أنواع أخرى من الفساد المتفشي لدى دوائر التخليص الجمركي. فقد يقلل التاجر من قيمة البضاعة في سبيل تخفيض الرسوم ويدعم تزويره بوثائق معتمدة من الأصل لكنها مزورة. مازال القاضي أو كاتب العدل لدينا يطالب المرأة باحضار شخصين لتعريفها عند أي مراجعة للمحكمة أو لكتابة العدل حتى مع وجود بطاقة الأحوال الشخصية معها وبالصورة. لكن من الذين سيعرفونها أمام القاضي؟ هم مجرد أشخاص تأتي بهم المرأة من أحد الممرات في المبنى وهم أصلاً لا يعرفونها لكنهم يدلون بشهادتهم أمام القاضي وتتم العملية بيسر وسهولة وربما مقابل مبلغ مادي بسيط للشهود.
لاشك أن إنفاق الدولة على هذه المشاريع إنما هو لبناء مستقبل البلاد. غير أن الفساد المصاحب لهذا الإنفاق يعتبر بنظري مصيبة بل ومخرب لهذه المشاريع. تشير تقارير صادرة من منظمة الشفافية العالمية أن المملكة هي الأسوأ على مستوى دول الخليج للعام 2009م رغم أننا الأقدم من حيث عمر الدولة وتجربتها. هذا ناقوس خطر لا يمكننا إغفاله. علينا أن ندرك أن السكوت عن الفساد لفترة طويلة قد يحوله إلى ثقافة يمارسها الجميع. وهذا ليس احتمالا بل واقع. فهناك ما يسمى بالفساد الصغير المتمثل في دفع هدية أو مبلغ صغير مقابل استخراج معاملة بل وحتى أحياناً مقابل الحصول على محارم ورقية من عامل النظافة في دورة مياه عامة.
آن الأوان لأن نؤسس إدارة جديدة ومتطورة بوسائلها وتكتيكها لمكافحة الفساد تعمل بواسطة تحديد الأهداف وتحقيق النتائج. لو قمنا بحسبة بسيطة جداً سنجد أن الفساد قد يكلفنا ما يزيد عن 100 مليار ريال في السنوات الثلاث القادمة على افتراض أن المشاريع الضخمة ولمدة سنتين أو ثلاث سنوات ستتجاوز ترليون ريال. الآن ما لذي يمكننا أن نخسره لو أسسنا هذه الإدارة ودفعنا تحفيزات مالية للعاملين المختصين قد تصل إلى ملياري ريال للإيقاع بهؤلاء الفاسدين؟ سنوفر في النهاية 98 مليار ريال. لهذا يجب ألا ننظر إلى تأسيس هذه الإدارة من منظار التكاليف الإضافية لجهاز الدولة بل من منظار التوفير على الدولة. والتوفير هنا مادي صرف بدون النظر إلى المكاسب الأخرى بعيدة المدى. كلنا يعلم أن الأنظمة الأقل فساداً هي الأكثر استقراراً والعكس صحيح. هاهي نيوزلندا والدانمرك وسنغافورة تتربع على رأس القائمة العالمية وما علينا إلا متابعة الاستقرار ومدلولات النمو في تلك الدول. الحقيقة التي لابد من الوقوف عندها هي أن التنمية التي لا تلتفت إلى الفساد ولا تحاربه إنما هي تنمية منقوصة وقد تأتي بنتائج مدمرة على المستويات المادية والأخلاقية على المدى البعيد.