باع الفساد كبير ليس له ارتفاع أو عرض أو قاع لارتباطه بالوجود البشري. والفساد أنواع وأشكال وألوان يصعب إصدار حكم محدد فيها بسبب شدة تعقيد ملازمتها للسلوك البشري. وقد درجت كل حكومات الأرض على إطلاق الحملات لمكافحة الفساد بشتى أنواعه لأنه ينتشر في الكيانات التنظيمية كالوباء. وبالرغم من قناعة الحكومات بأنه لا يمكن اقتلاع الفساد من جذوره إلا أن محاولاتها المستميتة ما هي إلا لتخفيف وطأته وتحجيمه وعدم انتشاره.

من أهم وسائل محاربة الفساد، في نظري، ليس التصدي وإنما القيام بضربات استباقية تجهضه قبل تكونه. ما يؤسف له أننا لا نرصد بشكل واع التغيرات التي تحدث في مجتمعنا وبيئتنا والتي تشكل إحدى دعامات تقوية الفساد وتسهم في تبريره ومأسسته (من تأسيس) في أذهان الأجيال الحالية.

المقدمة السابقة كانت ضرورية لشرح كيفية تسلل الأفكار بين الأفراد ثم تغلغلها لتصبح قاعدة مبررة لكل أنواع الفساد.

في أحد الأحاديث الجانبية مع أحد طلاب الجامعة دار بيني وبينه الحديث التالي:

قال :الفرص لا تأتي كل يوم ومن لا يقتنصها يعتبر مغفلا ولن يستفيد من حياته شيئا.

قلت له: طالما أن الفرص لا غبار عليها فلا مانع من ذلك.

قال: شاهدت فيلما قبل فترة من الزمن أثر فيّ تأثيرا كبيرا حتى تكونت عندي نظرية أسميتها نظرية "روبن هود".

ولمن لا يعرف "روبن هود"، هو شخصيه فلكلورية إنجليزية تمثل فارسا شجاعا، مهذبا، طائشا وخارجا عن القانون، عاش في العصور الوسطى وكان يتمتع ببراعة مذهلة في رشق السهام. امتهن سلب وسرقة الأغنياء لأجل إطعام الفقراء.

قلت له: ماذا تقصد؟

قال: أنت تعلم أنه من المؤكد أنها ستتاح لي، عندما أعمل، فرص كثيرة لاقتناص بعض الأموال والتي لو لم أقتنصها لأخذها غيري.

قلت له: هذا هو الفساد المالي.

قال لي: لكن ... أنا لا أضر أحدا فهذه فرص سائبة ومتاحة للجميع.

قلت له: وماذا بعد ذلك؟

قال: في اعتقادي أن من يعمل اليوم بجد مبخوس حقه من الألف إلى الياء والظروف والغلاء والمسؤوليات العائلية تستدعي مني هذا التصرف.

قلت له: وماذا بعد؟

قال: بعد أن أكون مستقبلي بإذن الله سيكون المجال مفتوحا أمامي لمساعدة الفقراء والمساكين، وأفكر من الآن في إنشاء مشاريع خيرية إذا وفقني الله وأصبحت مقتدرا.

قلت له: إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا.

قال: لا أعلم ... أنا تائه فكريا لكن الواقع الذي أعيشه وأعايشه يجعلني مقتنعا بما أقول ... لأن الأذكياء يقومون بذلك اليوم.

قلت له: لا تنس أن ما ستقتنصه من أموال في النهاية ليس لك حق شرعي فيه وكان يفترض أن يوجه لتنفيذ أغراض وأهداف تصب بشكل مباشر أو غير مباشر في خدمة كافة شرائح المجتمع، وانتشار مثل هذا الفكر بين الناس له أبعاد كثيرة على مستقبل البلد والأجيال القادمة.

قال: لكن ... لم لا أفعل ذلك؟ .. أنا لا أسرق الضعاف والمساكين.. أنا أرى فرصة سانحة ولم لا أقتنصها؟

قلت له: هذا هو بيت القصيد. الفساد الذي ستمارسه سيكون أول ضحاياه الفقراء والثكالى والأيامى لأن الفساد كالسوس ينخر كل شيء حوله، وبالنسبة للمقتدرين والأغنياء في هذه الدنيا فمجملهم لا تنقصهم الحيلة في تدبر أمورهم. أما المكافحون في هذه الحياة والضعاف فهم قليلو الحيلة ولا أحد يغطيهم غير سماء ربك عز وجل.

قال: ليتني لم أفتح معك هذا الموضوع فأنت لا ترى الشيء الذي أراه. أنت تعيش عالما مختلفا عن الذي أعيشه. أظن أنه قدري أن أتقمص شخصية "روبن هود".

قلت له: إنك حالة تستحق الدراسة وقد أستخدم نظريتك هذه في مقالة صحفية.

قال: أرجوك لا تفعل.. هذه فكرتي.. قد يستدل عليها كثيرون ويطبقونها قبل تخرجي.

قلت له: "الإثم ما حاك في نفسك وكرهت أن يطلع عليه الناس"، والتزمت الصمت وتوالت على رأسي أسئلة كثيرة لا تتسع لها مساحة هذه المقالة.