منذ بدء تمييزه للأشياء يرتقي الإنسان بذائقته الجمالية، ويجانس بينها وبين ما حوله برؤية فلسفية فطرية، لتعم ذائقته على كل متعلقات معيشته اليومية أو محيطه الأسري والمهني. ويكون رأيه منذ طفولته بقبول هذا الشيء – أيا كان - ورفض ذاك تعبيرا عن إحساس بالجمال في المأكل والملبس والمشاهدة واللعب وغيرها.
حين يكبر الإنسان تتطور رؤيته الفلسفية أكثر، فيمارس إسقاطات ذائقته الجمالية على ما يتلقى من أمور إبداعية، ومنها الشعر الذي التصق بالذهنية العربية كفن إبداعي راق منذ تكوين اللغة. وحينها تكونت الذائقة الشعرية للمجموعات والأفراد، واستمرت تتطور مع اختلاف معطيات الزمان والمكان، لكنها ظلت مخلصة للشعر المموسق، إلى أن وصلنا إلى زمن النثر في العصر الحديث، فانقسمت الذائقة الجمعية بين من بقي على إخلاصه للمتعارف عليه، وبين من انحاز إلى الصورة على حساب الموسيقى في الشكل الجديد. وبكل الأحوال فالذائقة الجمالية لم تغادر العربي بل تكيّفت مع المتغيرات وتباينت من شخص إلى آخر، حتى لدى الشخص الواحد تختلف الذائقة في مراحله العمرية بما يتناغم مع نضجه العقلي وتراكم مخزونه المعرفي، لكنه لا يتخلى غالبا عن متلازمة الضد لبيان جمال ما يستهويه.
وبما أن الشعر جزء من الفنون الإبداعية، تحدث حالات تكوين الذائقة لتنسجم في كل متكامل مع بقية الفنون من قصة ورواية ومسرح وموسيقى وغناء ورسم ونحت وعمارة... ومنها جميعا يتشكل في كل حقبة زمنية موروث ثقافي جمعي يلتصق بالمرء منقول إليه من جيل سابق، ليقوم بنقله إلى الجيل اللاحق. حتى ليصعب على الباحثين في بعض الحالات معرفة زمن نشأة أحد الفنون ليتم اللجوء إلى نظرية الاحتمالات لتقريب الأزمنة وترجيج كفة أحدها.
إلى ذلك ثمة فروق كثيرة في الذائقة الجمالية بين الشعوب والمجتمعات، فما يتذوقه شعب ليس بالضرورة أن يكون مقبولا لدى غيره، فالعرب مثلا بصورة عامة يرون في غناء "الراب" نشازا، لكن بعض شعوب الغرب مهووسة به. ولون "الدمّة" الشعبي المنتشر جنوب السعودية، لا يتذوقه كثير من المقيمين العرب لغرابته بالنسبة إليهم ولأن اللهجة عصية عليهم، ومجتمع الجنوب نفسه ينقسم في ذائقته الجمالية تجاه "الدمة"، فـ"الدمة" الألمعية التي أعشقها، ليس حضورها لدى رجال الحجر في النماص كحضور "دمّتهم" المشتقة من "عرضتهم"، أو لدى أهل سراة عبيدة كـ"دمّتهم" القريبة إلى حد ما من بعض "دبكات" بلاد الشام. وأهل الشام تآلفوا مع ألوان شعبية توارثوها لتصبح جزءا من نسيج ذائقتهم الجمالية.
أخيرا، مهما حاول الإنسان، فإنه بحالة لا شعورية يبقى بذائقته الجمالية مخلصا لخلايا المكان الذي نشأ فيه، أو قضى فترة طويلة من حياته.