تداولت عدد من وكالات الأنباء، الأسبوع الماضي، دراسة مسحية بريطانية أجرتها مؤسسة "يوغاف" ونشرتها صحيفة "ديلي ستار" ونشرت صحيفة كويت نيوز تقريرا عنها بالعربية. تسأل الدراسة المواطنين البريطانيين عن رأيهم في أن تقدم لهم الحكومة إرشادات فيما يخص أكلهم وشربهم. تقول الدراسة إن 48% من الناس عارضوا هذا الدور فيما أيده 22%. وأضافت الدراسة أن اثنين من كل ثلاثة بريطانيين يعتقدون أن السياسيين وموظفي الدولة لا يملكون الكفاءة ولا الحق في اتخاذ قرار بالنيابة عن الناس. ثم يختم التقرير بأن البريطانيين يرفضون أن تقوم الدولة بدور "المربيّة" وأنها لا تملك "الحق أو التفويض لتقييد خياراتهم الحرة".

هذا التقرير يضع يده على قضية من أهم القضايا المتعلقة بالديموقراطية والدولة الحديثة وهي قضية علاقة مؤسسات الدولة بالحريات الفردية. بمعنى علاقة المؤسسات الرسمية بالمبدأ الأول من المبادئ الديموقراطية وهو مبدأ احترام حريات الأشخاص الفردية والجماعية. هذه القضية هي من القضايا الحساسة جدا التي تواجهها عدد من الدول العربية التي اختارت شعوبها طريق الديموقراطية وتستعد هذه الأيام لصياغة دساتيرها التي يفترض أن توضّح تحديدا طبيعة علاقة المؤسسات الرسمية وصلاحيتها وحدودها أمام الحريات والحقوق الفردية والجماعية للناس.

الإشكال الكبير والمرفوع حاليا من قبل الكثيرين أن الدولة الديموقراطية بتعريفها المتداول هي الدولة التي تأخذ شرعيتها من سلطة الناس، وبالتالي فهي تعبّر عنهم ولم يعد مفهوما تخوّف الناس من الدولة التي هي تعبير عن إرادتهم الجماعية. أي إنه يمكن القول للمواطنين البريطانيين في الدراسة إن هذه الحكومة هي حكومة منتخبة والشعب هو من أعطاها الحق في إدارة شؤونه فلماذا هذا التخوف منها. عربيا هناك رغبة في دولة أم صالحة بمعنى دولة الرعاية الشاملة بشرط أن تكون صالحة، بمعنى أن الإشكال المتداول عن الكثيرين في الدول العربية هو ضرورة إحلال دولة نزيهة بدل الدولة الفاسدة لكن طبيعة الدولة ذاتها لا تزال خارج النقاش العمومي.

الدولة الديموقراطية الحديثة التي يتحدث عنها البريطانيون في الدراسة هي ما يعرف بالدولة الديموقراطية الليبرالية أو الديموقراطية الدستورية. هذه الدولة تم تصميمها لتحقيق هدفين أساسيين للمجتمع: أعلى مستوى ممكن من الحرية للجميع، وأعلى مستوى ممكن من المساواة للجميع. بمعنى أنها الدولة التي تم تصميمها لا لكي تحدد للناس كيف يعيشون، بل تم تصميمها لضمان أن يعيش كل إنسان كما يشاء في ظل احترام ذات الحق للبقية. بالتأكيد أن هذه هي الصورة المثالية للعقد الاجتماعي، ولكن الواقع يقول إن الاقتراب من هذه الأهداف لم يكن أبدا ليتحقق بمجرد كتابتها بل كان نتيجة عمل شعبي يومي ومستمر وفي أحيان كثيرة عالي التكاليف لتحقيق مستوى أعلى من العدالة.

الدولة المربّية التي يتخوف منها المشارك البريطاني، هي الدولة التي تخترق حقوق وحريات الأفراد والجماعات لتنوب عنهم في تحديد كيف يعيشون حياتهم. الدول الشيوعية مثال دقيق على الدولة المربّية فهي دول ترسم ومن البداية الخط الدقيق لسير حياة المجتمع فهي تحدد لهم تفكيرهم ونظامهم الأخلاقي والاجتماعي ليتحول الأفراد إلى مجرد منفذين لخطة تم وضعها مسبقا، مما يعني في النهاية فقدان حقه في اختيار طريق حياته الخاصة وتحوله إلى فرد يعيش حياة آخرين. هذا الخوف كان حاضرا وبقوة في لحظات صياغة الدساتير المعاصرة. الدستور الأميركي مثلا تم تصميمه لكي لا تحظى الحكومة بسلطة مفرطة تجعلها تتجاوز صلاحياتها لتتحول إلى دولة مربية. الحكومة كجهاز تنفيذي محاط بجهاز تشريعي وجهاز قضائي ومجتمع مدني وإعلام حر لمراقبته وضبط عمله.

أيضا الفكرة خلف رفض الدولة المربّية عند المواطن البريطاني هي القناعة بأن الشعب قادر على تربية نفسه. أي إن المجتمع المتكون من أفراد يعون حريتهم، قادر أكثر من غيره على إدارة نفسه وتحديد فعلا ما يريد وما لا يريد. هذه الفكرة جوهرية في معنى الديموقراطية بمعنى أن الثقة في قدرة الإنسان كفرد ومجتمع في اتخاذ قرارات حياته بشكل نافع له هو أصل فكرة الديموقراطية، ودون هذه الثقة لا معنى لأن يكون الشعب هو مصدر السلطات ومن هنا تتجلى الدولة المربية على أنها دولة تعارض الفكرة الأساسية للديموقراطية، فكرة أن الناس هم أعلم بشؤون حياتهم كأفراد وجماعات. الحكومة غير المربية هنا هي حكومة تقوم مهمتها الأساسية في إدارة المؤسسات الاجتماعية لتحقيق أعلى مستوى ممكن من الحرية والمساواة للجميع لا أن تحل محلّهم في إدارة شؤون حياتهم.

في السياق العربي، القضية حاسمة جدا ويبدو أن التوجه سيكون عموما باتجاه دولة مربية لها بعد ديني وسياسي محدد يحاول أن يسيّر البلد عليه. أكبر الطموحات تأمل في دولة مربية "صالحة" في مقابل الدولة المربية "الفاسدة" السابقة. الدور التربوي للدولة العربية يبدو أنه خارج النقاش. الدولة المركزية التي تدير الشؤون العامة بما فيها الإعلامي والثقافي والتعليمي لا تزال دولة مقبولة من ناحية المبدأ. التجربة تقول إن الدولة "المربّية" تناقض نفسها بسرعة فأول مبدأ للتربية هو أنها تعامل مع كائن حر بطبعه. التربية التي تسلب الحرية سرعان ما تتحول إلى إعاقة لتنمية المجتمع فهي تعزله من المشاركة والمساهمة في صناعة حاضره ومستقبله. ولكن وبغض النظر عن ما ستؤول إليه الأمور في الفترة القريبة القادمة إلا أن إرادة الناس للتغير والفعل هي المعول عليه في نهاية الأمر. حتى ولو كتب أفضل دستور ممكن اليوم فإنه لن يتحول إلى واقع إلا بالوعي الاجتماعي الذي يدفع باستمرار للأمام. هذا الوعي هو المؤمل عليه وهو الطاقة التي ستبقي الأمل ما دامت باقية.