يا للتاريخ الذي لايرحم ولا يظلم! ويالحيرته مع هذا الـ"نيلسون مانديلا": أخذ منه كل شيء، بدءاً بوالده الذي فقده مبكراً، وانتهاءً بطليقته، التي أحبته بجنون، وعشقت إخلاصه لمبادئه الوطنية السامية، وهي شابَّة في الرابعة والعشرين، وقد جاوز الرابعة والأربعين، لم يذق طعماً للحياة الناعمة المستقرة التي كانت أنوثتها "الشهرزادية" تعده بها، وتدفع المهر، وتصرف عليه طيلة فقدانه عمله!

كان إلى ذلك الوقت يعتمد سياسة صديقه الهندي/ "غاندي" في العصيان المدني السلمي، فما ضره لو ظل على هذا المبدأ ورفض العنف المسلَّح شكراً لهذه الحياة التي بدأت تبتسم له؟ أمن الحكمة أن يقارن لحظةً بين حضن "ويني" ـ ياويني ويناه ـ وغياهب السجون؟ ومن كمال الإنسانية أن يتعاطف مع أبناء وطنه وهم يقتَّلون ويشردون، ولكن أليست "أمه" التي قطَّع قلبها الخوف عليه، وأبناؤه من زوجته الأولى، وولداه الصغيران من "ويني" هم قَسْمَه من المسؤولية يحاسب عليه وحده، بينما يشاركه آلاف الرفاق في المسؤولية الوطنية، ولم يكن هو أخطرهم ولا أبرزهم؟ طيب ماضره لو تنازل "علناً فقط" عن دعمه العنف، ليقوم بالواجبين الشخصي والوطني "من تحت لتحت"؟

حسنٌ ـ قال التاريخ بلا رحمة ـ مادمتَ يابس الرأس فتحمل هذه المصائب: تموت أمك غاضبةً عليك، ولا تتمكن حتى من حضور جنازتها! ويموت ابنك الأكبر لتبوء بعذاب الضمير منذ ضيَّعته صغيراً! وتصمد حبيبتك "ويني" في دعمها لمبادئك الوطنية، ولكنها لا تقاوم فتنتها المرغوبة؛ فتخونك مع محاميك، ويسربون إليك فضائحها وأنت داخل السجن! ومن غيرك يسأل عن هذا العار، وأنت الشيخ ابن الشيوخ؟ من أي جِبِلَّةٍ أنت؟ إنك تسامحها، ولاتفكر في طلاقها عرفاناً لوقوفها مع "الوطن"؟ ومن يضمن لك أن الأمر يستحق كل هذا؟ ها أنت تمضي السنين الطويلة ولا بارقة أمل! بل إنك تصنَّف إرهابياً من قبل الأمم المتحدة! ماذا بقي لم تضحِّ به يا"نيلسون"؟

وابتسم العجوز كأن لم يمسسه سوء! لقد أدرك أن التاريخ الذي لايرحم استنفد كل ما لديه، وجاء دور التاريخ الذي لا يظلم: هيا.. اخرج من السجن بطلاً تهتف كل جنوب أفريقيا بحياته! كل أم هي أمك وقد رضيت عنك! كل شاب هو ابنك يفخر بعظمتك! كل أسرةٍ كريمةٍ هي أسرتك! كل عرضٍ شريف هو عرضك! كل جريحٍ أنت بلسمه! كل ثكلى أنت عزاؤها! وكل تقدمي هو خلفك! وكل رفيعٍ هو تحتك!

كل العالم أنت... يارجلاً يظل التاريخ يلهث خلفه ولا يدركه؛ حيرته في الجور، وهاأنت تحيره في الإنصاف: الأمم المتحدة تسمي يوم ميلادك 18 /7 يوماً للحريات العالمية كل عامٍ! وغداً يغيرون "Sunday" إلى "مانديلا داي"!