كنت قد ذكرت في مقالتي السابقة "العولمة وهويتنا"، أن العولمة ليست فكرا جديدا ظهر فجأة، بل هو إيمان وفكر قديم ظهر منذ العصور القديمة، مع بدء توسع المجتمع الأوروبي في أنحاء العالم، من أجل نشر الحضارة والتعاليم المسيحية، ومن أجل إيمانهم بـ "خلاص العالم". بالطبع هذه كانت النوايا الظاهرة، ولكن ما خفي كان الرغبة في الحصول على ثروات المناطق التي يتم السيطرة عليها، من أجل أن تدعم لهم السلطة، وتضمن لهم البقاء والتوسع. وهذا بالضبط ما ترغب به اليوم الشركات الكبرى، من استغلال ثروات العالم المادية والبشرية، كي تضمن البقاء والتوسع والانتشار.
وبناء على ذلك، نجد اليوم أن تأثير العولمة في الغرب،(خاصة في أميركا وبريطانيا وكندا وأستراليا) قد وصل إلى مجال التربية والتعليم، وهذا ليس بحدث جديد، فلقد بدأ منذ أن بدأت الرأسمالية تتدخل في تمويل الجامعات، خاصة كليات تأهيل المعلمين والأبحاث والدراسات، بالطبع من أجل أن تنشر فكر وأسلوب التعامل الذي يسهل عليها السيطرة والربح، على المدى البعيد قبل القريب. ومثالا على ذلك الأموال الطائلة التي صرفت في أوائل القرن الماضي، من قبل عائلة روكفلر وغيرها من العائلات الرأسمالية في مجال التربية والتعليم، في الولايات المتحدة الأميركية ومن ثم إلى بقية أنحاء العالم، وبالتالي دعم ظهور وانتشار المدرسة السلوكية(Behaviorism) التي تعتمد في الأساس على التحكم في سلوك الفرد والمجموعة، لأنها لا تؤمن بوجود العقل (وليس الدماغ)، بما أنه لا يمكن قياسه أو إجراء البحوث العلمية عليه، لذا قررت أن تركز اهتماماتها على السلوك، الذي يمكن أن يلاحظ ويدرس ويقاس، والتحكم بالفرد والمجموعة هو مطلب أساسي للشركات الكبرى، حيث تستطيع من خلاله أن تسيطر على الأسواق المحلية والعالمية، وتضمن استمرار وتراكم الربح. وهذا ما تقوم العولمة على نشره عالميا.
وعليه، يمكن للفرد أن يلاحظ تأثير فكر العولمة في مجال التربية والتعليم، من خلال التحويل الذي طرأ على التعليم، حيث يتم تحويله شيئا فشيئا من خدمة تقدمها الدولة لمواطنيها، إلى سلعة تسوق من أجل الربح، وهذا ما يدل عليه ظهور المدارس الخاصة والمدارس العامة (الحكومية)، التي تديرها الشركات الخاصة، إضافة إلى ظهور عدد من الكليات والجامعات الخاصة، أضف إلى ذلك التعديلات التي تقوم بها الجامعات القديمة والحكومية لبرامجها التعليمية، من أجل تسويقها مثل برامج الانتساب، والتعلم عن بعد، وهذا يتم كي تدخل سوق الأفراد الذين لم يقبلوا في الجامعات الأخرى، أوالأفراد من دول أخرى ممن يرغبون بالحصول على شهادات من جامعات عالمية، والأفراد الذين على رأس العمل بحجة التعليم المستمر، والتطوير في المهارات والمعلومات التي ـ حسب رؤيتهم ـ تمكن الفرد من أن يجاري التطورات والتغيرات الدائمة في الشركات من جرّاء التوسع والانتشار.
هذه الشركات التي بدورها تسعى إلى تشغيل من يستطيع أن يعمل تحت أي ظرف وفي أي مكان في العالم، أي تسعى لإيجاد موظفين ولاؤهم ليس لمجتمعهم وليس لوطنهم بل للشركة فقط، ولا أفضل من مجال التربية والتعليم كي يوفر لها هذه النوعية من العاملين والموظفين؟! وعليه تغدق هذه الشركات بكل كرم الأموال في هذا المجال على شكل مساعدات مادية أو مالية.
إن ما يحدث اليوم في الغرب في مجال التعليم، ليس بناء شخصية الفرد كي يستطيع أن يصبح عضوا فعالا في مجتمعه، بل خلق أجيال من المستهلكين، وهذا يتم عن طريق دخول الشركات الكبرى بإعلاناتها إلى داخل المدرسة، بل إلى داخل غرفة الصف، وذلك من خلال وحدات التدريس، الوسائل التعليمية، والمناهج التي تقدمها شركات الطباعة الكبيرة، الأفلام التعليمية (المدعمة من الشركات الكبرى)، الإعلانات التي تظهر في برامج وشاشات الحاسوب (عن طريق الإنترنت)، فنرى أنه عن طريق تقديم المساعدات المادية والمالية تُدخل الشركات الكبرى علامتها التجارية وتطبعها في عقول ووجدان الطلبة، ولن تجهد نفسها في تحديد نوعية الإعلان لأن التعليم ومجال علم النفس ـ عن قصد أو غير قصد ـ قد سهلا عليها "المأمورية" من خلال تحيد نوعية المستهلكين، وقد تم ذلك من خلال التقسيمات والتعريفات التي على أساسها تم تعريف المجموعات، موهوبون، ذوو الاحتياجات الخاصة، المهنيون، الفنانون، الرياضيون، الأطفال، المراهقون، الشباب...إلخ، من تعريفات وتقسيمات، وكل له الطريقة الخاصة التي يخاطب بها لتجعله مستهلكا مدمنا.
السؤال الذي يفرض نفسه هنا: هل هذا ما نريده لأبنائنا؟ لا أظن، إذًا يجب أن نوقف هذا الزحف المدمر عن طريق العولمة لهويتنا، لشخصيتنا، لثروتنا من أبناء وبنات هذا الوطن. يجب أن نتذكر دائما أن عمل التربية والتعليم، هو بناء وتعميق الشخصية لفرد حر عاقل، يستطيع أن يقرر بنفسه طريقة عيشه ويبني مستقبله، وأنه ليس أداة في أيدي الشركات الكبرى للاستثمار ودَرِّ الربح، وإن كنا نعتقد أنها مهمة سهلة يجب علينا إعادة التفكير.