بعيداً عن نقد مستوى وجودة التعليم العام ومخرجاته ومدى توافقها مع متطلبات المعرفة والمهارات المطلوبة للالتحاق بالدراسة الجامعية أو الدخول في سوق العمل بعد مرحلة الثانوية العامة، وبالتالي منافسة العمالة محلياً وعالمياً، وبعيدا عن نقد مستوى وإمكانيات المعلمين والمعلمات في التعليم العام، وبعيداً عن نقد منهجية ومحتوى المواد الدراسية، وبعيداً عن نقد طرق التدريس ومدى توافقها وصقلها لمواهب الطلبة والطالبات وتوسيع إدراك وفهم وتفكير وتحليل الطلبة والطالبات وقدرتهم على الإبداع والتحليل النقدي والموضوعي، بعيداً عن هذا كله وغيره من المواضيع والعوامل المؤثرة في تطوير وتحسين التعليم، يمكن لنا إحداث تحسينات سريعة ونجاحات مستحقة، تحسينات يمكن تحقيقها خلال فترة وجيزة وبتكلفة منخفضة، تحسينات يمكن من خلالها تحقيق فوائد كبيرة ونوعية للمنظومة التعليمية.
يذهب الطالب أو الطالبة من الساعة السابعة إلى الواحدة ظهراَ تقريباً أو على مدى أكثر من (6) ساعات يومياً، كل يوم وعلى مدى (5) أيام في الأسبوع أو أكثر من (22) يوماً في الشهر أو أكثر من (220) يوماً في السنة الواحدة، أو ما يعادل أكثر من ألف ساعة سنوياً، وعلى مدى سنوات الطفل في التعليم العام – 12 سنة - ما يقارب أكثر من (12) ألف ساعة من حياة الطفل، ولأطفال المملكة، يمكن تقدير عدد الساعات التعليمية لجميع أطفال المملكة – بنين وبنات – بأكثر من (48) مليار ساعة! وقت ليس بالقصير، وهو يعكس أهم مرحلة في عمر الإنسان، مرحلة البناء العقلي والمهاري والمعرفي، وبالتوازي مع مرحلة البناء الغذائي والبدني والصحي، فهل نحن مدركون حجم الاستثمار البشري الذي نتعامل معه؟
عندما يتم الحديث عن الدول المتقدمة في التعليم، تأتي كوريا الجنوبية دائماً في المقدمة نظير ما حصل من تطور تعليمي وصناعي وثقافي على مدى الأربعين سنة الماضية أو منذ الستينات الميلادية، غير أن سفير دولة كوريا الجنوبية لدى المملكة العربية السعودية السيد كيم جونغ - يونغ يختلف إلى حد ما مع هذا الرأي.
ففي حديث جانبي مع سعادة السفير الكوري الجنوبي، يؤكد السيد كيم جونغ - يونغ أن كوريا الجنوبية قد حققت الكثيرمن النجاحات خلال العقود الأربعة الماضية يأتي في مقدمتها ارتفاع الدخل القومي لكوريا الجنوبية ليضاهي كبرى الدول الصناعية وارتفاع دخل الفرد وتحسن مستوى وجودة الخدمات المقدمة والخدمة التعليمية والصحية وأيضاً ما حصل من تصدير لهذه الخدمات والخبرات لدول العالم، وما كان هذا ليتحقق – بحسب حديث السفير – إلا نتيجة تطوير التعليم العام أولاً وثانياً وثالثاً.. وتاسعاً ثم وضع السياسات والإجراءات التنظيمية الكفيلة بإدارة ومتابعة ومراقبة الخطط التطويرية والتنفيذية.
ولكن سعادة السفير الكوري الجنوبي السيد كيم جونغ يونغ يحذر في نفس الوقت بأن مستوى التعليم الحالي في كوريا الجنوبية رغم أنه من أفضل الأنظمة التعليمية في العالم، إلا أنه لا يرقى إلى طموحات وتطلعات قيادة وشعب كوريا الجنوبية، ومن أجل ذلك فإنهم في كوريا الجنوبية يعملون بشكل حثيث على تحسين العملية التعليمية أو العمل على وضع الخطط اللازمة لضمان استمرار تطوير التعليم العام، مع عدم التوقف عند حد معين مهما بلغ ووصل مستوى التعليم ومهما كانت أفضلية النظام التعليمي في كوريا الجنوبية بالمقارنة مع دول أخرى.
ففي كوريا الجنوبية، يتم العمل بشكل مؤسساتي وبمنهجية مدروسة وعلمية وعبر مراقبة دقيقة وقوية على تطوير التعليم وعدم الركون إلى الوضع الحالي والرضى به، وهذا يمثل تطبيقاً عملياً للحكمة القائلة: "من السهل الوصول للقمة ولكن من الصعب المحافظة على القمة". ما قامت به كوريا الجنوبية يمثل أنموذجا في بناء دولة عصرية ناجحة بكل المفاهيم، أنموذجاً يمكن تعلم الكثير منه، أنموذجاً ليس من المستحيل تطبيقه.
في المملكة العربية السعودية، تم بناء دولة بمجهود خارق وبطولي بقيادة المؤسس الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود رحمه الله، وبتوفيق الله أولاً ثم قيادة الملك عبدالعزيز ومعه أبناؤه والأسرة المالكة ومعهم جنباً إلى جنب جميع أبناء وبنات المملكة وعلى مر العصور، توفرت للمملكة مزايا وعوامل للنجاح قد لا تتوفر لدول أخرى، فالإسلام والأماكن المقدسة والتلاحم وولاء بين القيادة والشعب، والثروة البشرية التي يمثل فيها الشباب أكثر من (50%) أو أكثر من (5) ملايين شاب وشابة في الوقت الحالي، والثروة الطبيعية الاستثنائية من نفط وغاز ومعادن وغيرها من العوامل المطلوبة للنجاح.
مع توفر عوامل النجاح، وتوفر الدعم المالي من خلال ميزانيات استثنائية، ومنها ما تم توفيره للتعليم العام والذي يصل إلى أكثر من (150) مليار ريال للعام المالي 2012، يحق للوطن أن يتطلع ويطمح إلى تحقيق الكثير في المجال التعليمي، وهو طموح وتطلع مشروع.
يمكن عرض مقترحات عديدة لتحسين العملية التعليمية، وقد سبق الحديث عن ذلك في مقالات سابقة، وقد يكون من المناسب تقديم مقترحات قد تسهم في إحداث تحسينات سريعة في العملية التعليمية، أحدها يتمثل في تعديل الجدول الدراسي الـيومي ووضع ساعة حرة وبشكل يومي تتم فيها إتاحة المجال للطلبة والطالبات وخصوصاً في المرحلة الثانوية لممارسة هواياتهم ومواهبهم المختلفة تحت إشراف تخصصي علمي واجتماعي، ساعة نوعية وليست ساعة فراغ، ساعة قد ينتج عنها اكتشاف مواهب وقدرات، وحتماً سوف يحصل ذلك، وأولادنا وبناتنا ليسوا استثناءً ولا يختلفون عن بقية أطفال العالم، فهل نفعل؟