نظرية الفن الخالص تحتم على الفنان أن يتحرر من اضطراب الرؤية ليتحدد في ضوء ذلك اتجاهه، ويتميز مساره الفني بما يمكن تسميته (بصمة الفنان)، تلك البصمة التي تحدد نتاج الفنان ما إذا كان مستقرا في إطار التقليد الساذج غير الممتد أفقيا، أو متماسا مع هذا الامتداد الطبيعي للإبداع الذي هو في الأصل تراكمي، متصل ومنقطع، وهذا اتصال تلزمه خطوات يؤطرها وعي صاف بمفاهيم الفن، مفاهيم ينسجم فيها الأداء الفني مع التقنية الكتابية، ويتقدمها الوعي مرفودا برؤية متشربة للساكن في حواف الحياة، وشديدة الاستيعاب لمكامن الجمال والقبح في هذا الساكن. فالقهوة لها ضفاف تسير عليها بقتامة لونها وتتقاطع في سكون، ولكن ثمّ ما هو جمال يختبئ بين طيات هذا السكون والضفاف الأخرى يمتزج فيها السكر بالمرار.

بين الضفتين يجلس الإنسان باحثا عن بهجته بهذه القهوة، بهجة تقوده نحو إعلاء السكر في ذهنه، حتى لمن يفضلها مرّة لأنه لن يقوى على نسف السكر من ذاكرته.

أوضح المآخذ على بعض المنتمين للأجيال الجديدة، خاصة تلك التي سجلت حضورها مع متاحات وفضاءات الإنترنت، (إهمال الرؤية، سلامة اللغة، الشره نحو الذيوع والأضواء)، وتزداد المعضلة حين تتغاضى عن هذه المآخذ فيعلو تضخم الذات، والنرجسية، أو ما اتفق على تعريفه بالغرور. صحيح أن هناك أمراضا نفسية قلما ينجو منها أي كاتب/ فنان، لكن الموجع هو تجاهل هذه الأمراض، لتغدو مع تقادم الزمن مستعصية، يصعب علاجها والبرء منها.

الأجيال التي طرحت نفسها وقدمت إبداعاتها قبل انفجار الاتصالات ووسائط الميديا الحديثة، كان يحكمها قدر من الخجل والحياء، ذلك أنها كانت قريبة عهد من قيم كانت تسود الحياة الاجتماعية والثقافية، وكانت تتوفر على (أنفار) قادرين على الزجر وتقويم الاعوجاج، والتوجيه بما يكفل توفير مساحة قادرة على تأسيس وعي حقيقي بماهية الفن والكتابة والنشر وما إلى ذلك.

خواطري هنا لا تعني عدم وجود (معتوهين) و(نرجسيين) في الأزمنة القديمة والأجيال السابقة، قدر ما تريد الإشارة إلى أن الأجيال اللاحقة استفحلت بينها هذه الأورام، وهيأت التقنيات الحديثة المجال واسعا أمامها لتنكشف في العراء، خاصة في فن (الرواية) الذي بات (جدارا قصيرا) يريد تسلقه كل من عن له أن يقول شيئا، ظانا أن هذا الفن ما هو إلا ثرثرة تنداح هكذا في الطرقات، وولغو يعلو كالدخان الفاسد في ممرات الهواء.

خواطري هنا لا تقول البتة بعدم وجود لآلئ مفرحة حد الثمالة تبزغ بين الأجيال اللاحقة، ودائما تأتي مبشرة بالغيم ومطر الفن الحقيقي الفائض عذوبة.