مؤشرات قياس تطوّر المجتمع متعددة ومتنوعة، ليس منها تعداد المباني الإسمنتية أو المنتجات البلاستيكية، لكنها حتما تقاس بالناتج المعرفي knowledge للمجتمع، سواء على مستوى الدراسات الإنسانية، أو العلوم الطبيعية وعلوم الحياة.

لكن أحد المؤشرات المهمة التي أغفلت حالياً؛ هي التطور والنضج في الدراسات الإنسانية، والتي تراجعت مؤخرا، مع تسابق الجامعات المحلية والمراكز البحثية نحو العلوم التطبيقية فقط، وتجاوز العلوم الإنسانية، وكأنها علوم من الدرجة الثانية، رغم أنها علوم أساسية، ومدخل مهم لفهم وتفسير ظواهر المجتمع، وبالتالي حل مشاكله، بالإضافة إلى دراسة تطوره واستشراف مستقبله كما في علوم التاريخ والإعلام ونحو ذلك، ولعل من أهم تلك العلوم هو علم الأنثروبولوجيا Anthropology، أو "علم الإنسان"، وهو العلم الذي يدرس أصل النوع البشري، والظواهر المتعلقة به، وتتفرع منه عدة علوم فرعية، تتداخل فيه الثقافة والطبيعة وعلم حياة ما قبل التاريخ، والإثنيات الموجودة، ولعل أفضل تعريف لهذا العلم هو ما وضعه الدكتور شكر سليم في قاموس الأنثروبولوجيا (1981): "بأنه علم دراسة الإنسان طبيعيا واجتماعيا وحضاريا"، وهو الوصف الذي يعطيه بعدا شموليا، متداخلا مع علوم إنسانية أخرى.

في بداية القرن العشرين؛ ومع بداية تشكل مفهوم "الأنثروبولوجيا" كمفهوم مستقل عن الفلسفة الاجتماعية، لم يكن يتوقع أن الطريق سوف يشرّع نحو دراسة أوسع وأشمل لثقافات العالم، وخصوصا "المتخلف" منه، وعلى الرغم من أن هذا العلم كان أسير دراسة المجتمعات البشرية البدائية، غير أنه اتسع خلال العقود الماضية ليشمل المجتمعات القروية، والبدو الرّحل، والمجتمعات المدنية، فضلا عن تميز الدراسة الأنثروبولجية بأنها دراسات كلية، تعتمد على المنهج النوعي في الوصف والتحليل، والأهم من ذلك دراسات المقارنة بين مجتمعات محددة في بنيتها الاجتماعية وثقافتها، وكذلك الاعتماد على البحث الحقلي، وهي المعاينة الميدانية للنموذج المدروس، وهو ما يجعله مقاربا للعلوم التي تعتمد على التجارب المخبرية، فضلا عن أن جانبه الحقلي يقضي فيه الباحث وقتا طويلا من الملاحظة، والاعتماد على الاتصال الشخصي المكثف بمجتمع الدراسة، والربط بين الجانبين المعنوي والمادي لما يدور في حياة الناس اليومية، وبالتالي يخرج بنتائج وملاحظات شبه دقيقة.

وللأسف يعتقد البعض أن مثل هذه الدراسات غير مجدية، وغير مفيدة، رغم أننا بأمس الحاجة لدراسة وتوثيق معالم مجتمعنا السعودي، وثقافاتنا الفرعية، خصوصا في الأنثروبولوجيا الاجتماعية، مما يسهم بالتعرف بشكل أكثر دقة على تحولات مجتمعنا، وفهم أكثر شمولية لشبكة العلاقات الاجتماعية والعادات والتقاليد، وبالذات التحولات التي حدثت خلال العقود الأخيرة، مثل ما بعد ظهور النفط، أو خلال طفرة الثمانينات، أو حتى موجات ارتفاع أسعار الأسهم المحلية، بالإضافة إلى دراسة أنماط التغير في الثقافة اليومية والفلكلور الشعبي، حيث توجد بالمملكة مساحات مدهشة للدراسة الأنثربوولوجية بكافة تفرعاتها، مثل اللهجات المختلفة في نفس المنطقة الواحدة، الرموز اللغوية، عادات الزواج، طقوس العفو عن القاتل، الشعائر الدينية، الزي وعلاقته بالبيئة المحيطة، والأجمل من ذلك حينما نتتبع تلكم الظواهر حتى أصولها التاريخية، وكيفية انتشارها وتعمقها، أو اندثارها في إحدى طبقات المجتمع.

من جهة أخرى قد يرى البعض أن ما قام به المستشرقون من العيش وسط المجتمعات العربية، ومنها السعودية قبل توحيد المملكة؛ ما هو إلا دراسات أنثروبولوجية ذات هدف استخباراتي، ولكنها مع مرور الزمن، وغفلتنا عن هذه المجال العلمي، تحولت تلك الدراسات لتكون المراجع الأساسية لتاريخ المنطقة وثقافتها، خاصة الوثائق التي اعتمدت على الرصد والملاحظة والوصف، رغم كل ما يشوب بعضها من نفس استعماري وعنصري بغيض.

وهناك الكثير من الأمثلة عن دراسات أثرية، تناولت البعد الأنثروبولوجي بالمجتمع السعودي، مثل بعثة الأبوين جوسين وسافنياك في شمال غربي المملكة عام 1907، والتي استمرت حتى عام 1914، أو ما قام به الباحث الإنجليزي هاري سنت جون برديجر فيلبي حينما نشر عدة دراسات عن أعمال بحثية أنجز متطلباتها الميدانية خلال عهد الملك عبدالعزيز – طيب الله ثراه ـ من أهمها دراسته عن العاصمة الرياض التي نشر عام 1959 ووصف فيها المدينة، وأحياءها القديمة عندما كانت داخل أسوارها وصفا مفصلا، ثم تناول بالتفصيل انتشار المدينة خارج أسوارها شاملا بحديثه حي المربع، وظهرة البديعة، وحلة الأحرار، وحلة القصمان، والناصرية. وتطرق بالحديث إلى النهضة العلمية من خلال الحديث عن جامعة الملك سعود، ومعهد الأنجال، ونواة المتحف الجديد في الرياض، والقائمة تمتد وتطول من الأمثلة الأجنبية، والتي أضحت مصدرنا الوحيد لتعرف على تاريخ بلادنا، وبواكير النهضة المحلية، ولعل مشاهدة خاطفة لما تعرضه قنوات التلفزة الأميركية من برامج وثائقية ذات بُعد أنثروبولوجي، سوف يصاب بالدهشة من العمل الاحترافي والصبر الشديد الذي يتميز به علماء الأنثرولوجيا، بهدف رصد أو وصف مشهد إنساني واحد.

ورغم هذا كله وكل التوسع الكبير في التعليم الجامعي في السنوات الأخيرة؛ إلا أنه لا يوجد ـ حتى الآن ـ قسم أكاديمي متخصص في الأنثروبولوجيا في أي جامعة سعودية! بل إن كليات الآداب لا تزال تتمسك بالمسميات القديمة، دون أن تتحول إلى كليات علوم إنسانية لتستوعب المزيد من الأقسام الأكاديمية، ومنها قسم دراسات "الإنسان".

قد لا يدرك البعض أهمية الحديث عن هذه العلوم، وتطبيقاتها المهمة، ويرى أنها مجرد علوم ورقية لا فائدة منها، لكن حسبنا من القلادة ما أحاط بالعنق، لعل أحدا ما يتشجع ويعلق الجرس، حتى نرى دراسات أنثروبولجية محلية بعيون سعودية.