خلال عقد من الزمن تغيرت في واقعنا العربي مفاهيم كثيرة، مجسدة انتقالا واضحا من التمسك بالثوابت الوطنية والأخلاقية، إلى قيم ما بعد الحداثة، بشكلها المتوحش. وربما أمكننا اعتبار تفجير برجي مركز التجارة الدولي في نيويورك ومبنى البنتاجون في واشنطن بالحادي عشر من سبتمبر 2001، محطة رئيسية في هذا الانتقال. فإثر تلك الأحداث العاصفة، أعلن الرئيس الأميركي السابق جورج بوش حربا عالمية على الإرهاب. ومع التحضير للحرب، برز التعميم بأن أحداث سبتمبر هي نتيجة سيادة ثقافة الكراهية والإرهاب، وهيمنة أنظمة الاستبداد في منطقة الشرق الأوسط، وأن مواجهة الإرهاب تقتضي فرض الديمقراطية بأشكالها الغربية، حيث تفتح الأبواب مشرعة للحرية الفردية، وتسقط أنظمة الاستبداد، ولو عن طريق الاحتلال، وخارج أطر الشرعية الدولية. ولم تستثن الخرائط والبرامج المعدة لهذه الحرب عدواً أو صديقاً، فليس فيها كما يقول ونستون تشرشل صداقات دائمة، بل مصالح وموازين قوى وصراع إرادات.
غيبت عن رؤية الرئيس بوش لتحقيق التحول السياسي في المنطقة، أن التغيرات الأساسية في الكيانات السياسية هي انعكاس لتحولات كبرى في الهياكل الاجتماعية ومنظومة الثقافات، وأنها والحال هذه تعبير عن واقع موضوعي معاش وسيرورة تاريخية. وقد أكدت النتائج الكارثية للاحتلال الأميركي لأفغانستان والعراق، أن محاولات تغيير الأنظمة السياسية بالقوة العسكرية لن ينتج عنها سوى تفجير الصراعات الطائفية والإثنية وطغيان الفوضى، التي هي بالضد من أساسيات تأسيس الدولة المدنية، في شكلها المعاصر.
واقع الحال، أن انتقال رؤية إدارة جورج بوش، من التنظير إلى الفعل، قد أكد بما لا يقبل الجدل، بعد مرور عقد على احتلال البلدين أن الذي انبثق عن إسقاط النظامين السياسيين في العراق وأفغانستان لم يكن أفغانستان جديدة أو عراق جديد، ولا ديمقراطية ولا تداول سلمي للسلطة. لقد تحولت الوعود بجعل البلدين المحتلين إلى واحتين للنماء والازدهار، إلى شيء آخر مختلف تماما عن تلك الوعود. فسادت لغة التشطير والتفتيت، التي فرضت بالقوة وبالتخطيط، لتشمل أجزاء أخرى من الوطن العربي إضافة إلى ما تم تنفيذه بالاحتلال المباشر. فلدينا الآن أكثر من يمن، ولدينا أكثر من سودان، والبقية قادمة، حيث يتوقع أن ينتقل التشطير إلى الجزء الغربي من السودان، فتقوم دولة في دارفور. أما ليبيا ما بعد القذافي فقد أزيل عنها اللاصق الشمعي، لتتحول إلى برقة وفزان وطرابلس، وازدهارها ونماؤها الموعود تفصح عنه بجلاء السيارات المفخخة، والتفجيرات التي تجري بين الحين والحين.
في العراق، أضحى النظام الفيدرالي، الذي قيل إنه سيشكل أنموذجا متقدما للحكم في هذه المنطقة، مشروعا ناكصا، أعاد العراق إلى ما قبل الدولة الحديثة، وأحاله إلى رقعة شطرنج تتنافس فوقها الأقليات والطوائف. وقد نتج عن عملية التشطير بروز حكومتين، إحداهما بالمركز بغداد والثانية في الشمال، تتصارعان على المواقف والثروات والحصص والتفجيرات اليومية، والقتل على الهوية يحصد عشرات الأبرياء كل يوم.
ومع أن المشروع الإمبراطوري الأميركي، للقرن الواحد والعشرين ووجه بالفشل، فإن كثيرا من المثقفين ما زالوا يرون في الفيدرالية مدخلا للتماهي مع لغة هذا العصر. وحين تجادلهم بالقول، إن الليبرالية مشروع يقوم بين أوطان وثقافات مختلفة، وليس بين أبناء مجتمع واحد، وأنها تعتبر حالة متقدمة حين تكون هناك أوطان بهويات مختلفة، أما في ظل الوطن الواحد فإنها مشروع ناكص، وأن الفيدرالية التي تحققت في عدد من دول العالم، هي استجابة لواقع موضوعي، وخرجت من رحم الاختيار والإجماع للوطني، ولم تفرض من الخارج، وبالضد من الإرادة الوطنية، يجادلونك بالسخرية من الوطن والوطنية، داعين إلى رؤية إنسانية أرحب من فكرة الوطن، سرعان ما يتكشف ما يكمن خلفها من أطروحات طائفية وحزبية وفئوية.
في هذا الجدل يبرز مفهوم سطحي وساذج، خلاصته أن الإنسان أهم من الوطن، لأنه قيمة مطلقة بينما الوطن قيمة نسبية. مع أنه كما يراه العلامة عبد الرحمن بن خلدون هو الاستقرار، وهو انتقال الإنسان من السير والترحال إلى العمران والحضارة. وفي موروثنا الخالد أن حب الوطن من الإيمان. وفيه أيضا أن الدفاع عن الأرض هو دفاع عن العرض والشرف والكرامة.
وحتى إذا سلمنا جدلا بأرجحية مقولة أولوية الإنسان على الأوطان، فإن السؤال عن حق الإنسان في المأوى والهوية سيصدمنا، ليعيد طرح الهوية والانتماء الوطني بقوة. كيف يحقق فلسطيني احتلت بلاده وشرد من أرضه، وصودرت ممتلكاته، وحرم من وثيقة تؤكد هويته الوطنية، تحقيق إنسانيته؟ وكيف يمكن لخمسة ملايين من العراقيين الذين فرضت عليهم الحرب الطائفية، والاحتلال الأميركي لبلادهم، مغادرة العراق، والعيش لما يقرب من عقد من الزمن في الشتات، دون الحد الأدنى من الحقوق الإنسانية؟ كيف يتحرك الإنسان في هذا العالم الرحب دون جواز سفر ومن غير هوية، أو انتماء لوطن. أسئلة كثيرة تتداعى، لتؤكد زيف مقولة أن الإنسان أهم من الوطن، لنوضع أمام تقابل بين مطلقين، ليس منطقيا أو مقبولا التمييز بينهما، أو إعطاء أحدهما أرجحية على الآخر.
الوعي بأهمية حرية الوطن، وتأمين استقلاله واستقراره، أدى إلى فرض خدمة العلم، وأصبحت هذه الخدمة قانونا ينص عليه معظم دساتير دول العالم. وهو بالذات ما ارتقى بالوعي في المجتمعات الإنسانية، لتصبح العلاقة بين الحاكم والمحكوم علاقة تعاقدية تحكمها قائمة من الحقوق والواجبات التي يؤديها الجميع، من غير احتجاج أو ضجر، كونها ضريبة الانتماء للوطن، يدفعها الجميع عن طيب خاطر.
القراءات المعكوسة، تشمل أيضا التبشير بالتنمية في الضفة الغربية وقطاع غزة، في ظل الاحتلال الصهيوني، وتغليبها على مقاومة مشاريعه. كيف يمكن تحقيق تنمية في بلد لا يملك مواطنوه حق الإمساك بزمام مقاديرهم. وهل فعلا يمكن لبلد صغير محاصر، كقطاع غزة أن يحقق تنمية حقيقية في ظل الحصار الإسرائيلي وشح الموارد.
في هذا السياق، نذكر أن الرئيس الفلسطيني الراحل، ياسر عرفات أسس مجموعة من المؤسسات الاجتماعية والاقتصادية على الأراضي اللبنانية، بحي الفاكهاني، بحسبان نقلها بالجملة بعد تحرير فلسطين. وأدى انشغاله بذلك إلى التركيز على حمايتها، مستبدلا روح المبادرة والاقتحام بالتريث والتردد، لكن هذه المؤسسات جرى تدميرها بالجملة بعد الغزو الإسرائيلي لبيروت في مطالع الثمانينات، لتؤكد تعارض إنجاز أي تنمية اقتصادية واجتماعية، ما لم ينجز الفلسطينيون مشروع الاستقلال.
وإذن فنحن أمام جملة من القراءات المعكوسة، التي ينبغي وضعها في سياقها التاريخي، سياق الهيمنة الأميركية والإسرائيلية. وهي هيمنة ينبغي ألا تفرض مفاهيمها على ثقافتنا، لأن الأسوأ ليس هو الاحتلال أو الهيـمنة، ولكـنه سقوط الذاكرة التاريخية، الحصن الأخير في الدفاع عن الوطن والهوية.