الديموقراطية تواصل عمومي في مجتمع متنوّع بالضرورة. بمعنى أن المجتمع الديموقراطي، ضمن فكرة أن الناس جميعا هم أصحاب القرار، يجعل من تواصلهم مع بعضهم بعضا الطريق لصياغة مواقف وآراء يمكن الدفع بها لتعبّر عن توجهات هذا المجتمع. انقطاع هذا التواصل، كما يؤكد جون ديوي، يعني توقف وجود المجتمع ذاته، فالمجتمع لا يوجد تلقائيا بمجرد وجود جماعة معينة على بقعة جغرافية واحدة بقدر ما يتشكّل مع تواصل أفراد هذه الجماعة وإحساسهم بأنهم جماعة واحدة متنوعة مرتبطة بمصير واحد، وتحتاج لاتخاذ قرارات جماعية تعبّر عنها. لذا فإنه يمكننا الحديث عن مجتمع ديموقراطي بقدر توفر مجال عام آمن ورحب ومفتوح وجذّاب للأفراد.
هذا المعنى التواصلي للديموقراطية يجعل من أولويات التفكير في الديموقراطية فحص مستوى وطبيعة التواصل في المجتمع الديموقراطي كقضية جوهرية يقاس من خلالها مستوى بل ومعنى التجربة الديموقراطية ذاتها. من هنا تأتي قضايا كحرية التعبير والتكافؤ في الفرص والتعليم العام والبحث العلمي في أول سلم البحث في الديموقراطية في أي مجتمع. بمعنى أن سؤال: ما هي العوائق التي تمنع الناس من التواصل؟ هو سؤال جوهري هنا. طبعا الناس وبوضوح يعرفون أن الاستبداد والعوز هما أكبر معوّقات التواصل بين البشر، وبالتالي فإن الثورة على الاستبداد والفساد كانت العناوين الرئيسية لحركة كل الشعوب باتجاه الديموقراطية.
لكن إشكالات التواصل البشري أعمق وأوسع من وجهها الظاهر في مجتمعات الاستبداد. بمعنى أن الديموقراطيات القائمة في الغرب والشرق تعاني من إشكالات حقيقية جعلت من موضوع الديموقراطية موضوعا جوهريا للبحث العلمي والفلسفي في كل مكان. إحدى أهم هذه الإشكالات والتي بدأ الاعتراف بها في الغرب وأصبحت مشكلة يسعى للتعامل معها المشتغلون بالشأن العام ولا تزال خارج المفكر فيه عربيا؛ إشكالية الهويات المتعددة والهوية الصلبة أو الهوية الواحدة المسيطرة. هذه الإشكالية كالتالي: الإنسان في المجتمع المفتوح، المجتمع الديموقراطي، يتمتع بهويات متعددة، فهو ينتمي لجماعات مختلفة ويلعب أدوارا متنوعة في المجتمع. فالفرد لديه هويته الفكرية والاجتماعية والفنية والاقتصادية..إلخ. بمعنى أن الفرد في المدينة الحديثة، على خلاف المجتمع المغلق، ينتمي لجماعات متنوعة مختلفة يحتاج للمواءمة بينها بهويّة مرنة قادرة على التعاطي مع مفهوم الاختلاف والتنوع، وتسمح له بالتواصل داخل هذه الجماعات بدون شعور بالأزمة. هذه الهويّة المرنة المنفتحة ضرورة للعيش بفعالية في المجتمع الديموقراطي الذي كما قلنا يقوم على التواصل. في مقابل الإنسان متعدد الهويات هناك إنسان الهويّة الصلبة أو الهوية الواحدة المهيمنة. بمعنى أنه الإنسان الذي يتورّم لديه انتماء فكري أو ديني أو عرقي معيّن لدرجة أن يشكّل له هوية ذات بعد واحد. كل الدوائر الأخرى التي ينتمي إليها هذا الإنسان تصبح هامشية وخاضعة لمقياس الانتماء الأساس. الفرد بالهويّة الصلبة يخسر دوره الاجتماعي بسبب انتمائه الأوحد في مجتمع متعدد ومختلف. المجال العام في التجربة الديموقراطية مفتوح للجميع، ومن الضروري للفرد امتلاك لغة مفهومة من قبل الآخرين وقدرا من الانفتاح يتيح له إمكان الاستماع والتفاهم.
على سبيل المثال عدد من الجماعات الإسلامية في الغرب تعاني من هذا الإشكال، فهويتها الدينية المتشددة تطغى على الهويّات الأخرى، مما يعزل أفرادها عن الدوائر الأخرى في ذات المجتمع. الشباب أو الشابات المنتمون لهذه الجماعات يجدون صعوبة في التواصل بسبب أن هويتهم الدينية الصلبة تضع شروطا صارمة على سلوكهم تجعل من التواصل المجدي مع الآخرين عملا مستبعدا. على سبيل المثال علاقة أفراد هذه الجماعات مع جماعات أخرى، لنقل: التيارات النسوية، تيارات حماية البيئة، اليهود، الجماعات المتشددة الأخرى، جماعات الزواج المدني، جماعات مناصرة الإجهاض، جماعات البحث العلمي في الجينات والاستنساخ..إلخ. لو لاحظنا لوجدنا أن علاقة هذا الشاب أو هذه الشابة مع هذه الجماعات تنطلق جميعها من هويّته الدينية الصلبة، وبالتالي ستعيق عملية تواصله مع هذه الجماعات التي لا يمكن باختصار تجاهلها داخل المجال العام.
على المشهد العربي نشاهد بوضوح أن الجماعات السلفية في مصر وتونس تواجه إشكالات أكبر من غيرها داخل ساحة الفعل الديموقراطي، لكن هذا لا يعني أنها الوحيدة التي تعاني من هذا الإشكال. جميع التيارات لأسباب متعددة تعاني من مشكلة تواصل ولكن ما يهمنا هنا هو البحث في معضلة الهويّة الصلبة تحديدا. الواقع يقول إن الشباب لديهم القدرة على التواصل بشكل أكبر من غيرهم. يمكن ملاحظة هذا من خلال التنوع داخل الجماعات التي يشكلونها على الأقل في مواقع التواصل الاجتماعي. في المقابل التيارات التقليدية التي ازدادت تقليديتها تحت نير الاستبداد تعاني من أزمة في التواصل داخليا وخارجيا حتى وإن وضعت لها شبابا لبقين كمتحدثين إعلاميين يجيدون التعامل مع الإعلام. لاحظ هنا أن الحديث لم يعد عن قيادات تجيد اللعبة السياسية والمفاوضات بقدر ما هو الحديث عن أفراد يجيدون التواصل خارج التنظيمات التقليدية. أفراد لديهم القدرة على الحركة داخل المجال العام بمرونة وانفتاح داخل معادلة محكومة بتنوع المجتمع وضرورة اختلافه. معادلة تضع في حسبانها أن الديموقراطية متى ما استمرت وأثمرت جاءت بالمزيد من التنوع والاختلاف، أو بالأحرى أنها ستجيء بجماعات جديدة تختلف معك وربما تصادم الكثير من مسلماتك ومبادئك، ولكنها في الأخير شريكة في المجال العام ولا يمكن نفيها.
الهوية الصلبة أو المهيمنة تتناقض مع هذا المناخ ولكنها ليست مستبعدة منه. وجودها في المناخ الحر يجعلها، كغيرها من الهويات، في حركة وتغيّر باستمرار مما يفتح الأمل في تجاوزها لطبيعتها اللاديموقراطية أو لدخول معاني الحرية والحوار والانفتاح والتغيّر في آليتها مما يجعلها في الأخير جزءا من الفعل الديموقراطي لا عالة عليه أو تهديدا له.