إنها الأيام نعدها وتعدنا مواسم تأتي ومواسم تغادر، فرح يبهج، وفرح لا يأتي. الحزانى والفرحون والعابرون والمتظاهرون بالفرح كلهم مروا من هناك من مكان ما، زمان ما اسمه "العيد" كل أتم عيده، وأخذ زينته واحتفى به بطريقته. عيد مر من هنا أو بشر مروا من هناك، ولكن كيف؟ القرية الكونية الصغيرة المثقلة برنين الآلات الرقمية الذكية، كيف بدت وهي تنبض بمواسم الفرح البشري الذي تحول بفعل الذكاء التقني المدهش إلى مواسم رنين وأزيز حيث تحول نمط التواصل الإنساني إلى حياة إلكترونية باذخة قامت باستلاب كل ما هو روحي ومحسوس وبشري.

مواسم فرحنا وتاريخنا الحسي والإنساني مر من هنا كما هذا العيد الذي مر من هنا وبقي منه رسائل باردة وصامتة وموحشة.

غيرت التكنولوجيا حياتنا كما غيرت كيميائية تواصلنا ـ أكثر من أي وقت مضى ـ فبات أسلوب تواصلنا تعبيرا تقنيا رقميا غير جذري العلاقات التقليدية لمستهلك هذه الأدوات، فمست حياة الناس في أعمق وأهم ما تملكه "الشعور والحسية" إذ سطت بقوة على الوجود الإنساني الحسي لهم، وهو الجانب الأكثر تجريدا ًوجمالا وحقيقية لديهم.

لم تعد هناك أية فرصة للتراجع خطوة للخلف، فقد أصبح من الصعب السيطرة على كل وسائل التقنية الذكية التي أسهمت في إحداث تغييرات مربكة وكبيرة في علاقات الفرد مع مجتمعه الصغير وفي علاقته مع مجتمعه الكبير.

مر العيد من هنا، ومن هناك ومن ذاكرتنا، وترك لنا مظاهر الفرح الذكي إشارات وأيقونات وصناديق وارد ممتلئة بالكلمات لبشر نعلمهم ولكن تم اختصار وجودهم إلى رسائل باردة خاوية من الروح وبهذا يكون انتهى موسم الابتهاج والفرح.

يجب أن نتمسك بالإنسان الذي بقيت لنا ملامحه حتى لا نفقده بعد أن تحول أحبتنا في غفلة من الزمن إلى مجرد مجموعات من الفولورز، وإشارات من الكومنتات على صفحاتنا، وبردكاستات ورسائل على أجهزتنا بلا ملامح إنسانية وباردة مثل شتاء وحشي. تكمن خطورة هذه الكائنات الرقمية الذكية في كونها تجيد تفكيك التناغم الحسي للمجتمعات والتأثير في ذكاء الفرد وسلوكه الاجتماعي والعاطفي بحيث يصبح أقرب إلى الآلة منه إلى الإنسان. حيث لا تملك هذه الكيانات الرقمية الذكية دفء المشاعر وقوة الروح ونبرة الصوت وخلجات الوجه والجسد وحسيته وتعبيره وهي مقومات عملية التواصل الحقيقي للإنسان.

التقنية الذكية تلعب دورا كبيرا في تبني الأفكار والتعبير عنها واحتلال دور الإنسان روحيا ومن ثم يصبح التواصل الإنساني عديم الجدوى وفي حال اضطراب روحي كبير.

التغيير إذن هو رهن لاحتياجات الإنسان من خلال التعاطي مع نمط ثقافته الجديدة بالدفع بها إلى أن تجعلنا إنسانيين أكثر، وحقيقيين أكثر، وألا تشكلنا إلى مجرد لقطات ضوئية وذبذبات، وشرائح اتصال. ألا نسمح لها باختطاف وجودنا وسلبنا طاقة الروح المحسوسة بكل دفئها وحضورها التي هي الطاقة الجوهرية في الإنسان.