ونحن نحتفل بهذا العيد، يمر على خواطرنا أحبة وفضلاء، كانوا معنا في الأعوام الماضية، ونفتقدهم وأرواحهم الطاهرة اليوم، ولعل أستاذ جيل بحقّ هو من أولئكم الذين افتقدتهم الساحة الإعلامية في بلادي بعيد العام الماضي. إذ في الأسبوع الأخير من رمضان قبل المنصرم هذا، تُوفي أستاذنا محمد صلاح الدين الدندراوي، وكتب بعض الأوفياء من أصدقائه خلال الأيام الفارطة بعض مقالات عنه، ليتذكروا هذه المدرسة الصحافية التي تخرج فيها أعمدة ورؤساء تحرير الصحف اليوم.

كان كل من يلتقيه من الشرعيين في مناسباتي التي أدعو لها لفيفاً منهم؛ يهمسون لي بأنهم يقرؤون ويتابعون مقالات فقيد الصحافة السعودية الكبير الأستاذ محمد صلاح الدين، ولكنهم يتفاجؤون جداً من صمته الطويل في المناقشات الحامية التي تدور في المجلس، ويكبرون فيه هذا الوقار المهيب والأدب الرفيع والعمق فيما يطرح؛ وقتما أصرّ عليه إصراراً أن يعلّق برأيه.

كان يرحمه الله، يحتفي دوماً بالدعوات التي توجه له من قبل العلماء؛ لحبه الشديد لشريحة الشرعيين، ولربما أنّ مجاله الذي كان يمتهن ويعمل لم يعطه فرصة كبيرة أن يتواصل بشكل كبير ومباشر مع الدعاة، لذلك لم أدعه يوماً قط إلى مناسبة إلا ويلبيها، وحتى في فترة وعكته التي قضى بسببها وهي ببداياتها؛ أكرمني بالحضور وقتما ذكرت له أن الشيخ سلمان العودة هو ضيفي، وأكرمنا بالمجيء واستأذن وقت تناول العشاء، وانصرف مبكراً يرحمه الله. بل قبل خمس سنوات، طلبت من سماحة والدنا مفتي عام المملكة الشيخ عبدالعزيز آل الشيخ، وكان بمكة المكرمة في رمضان؛ أن نلتقيه أنا ورئيس التحرير د. فهد عقران ومعالي رئيس مجلس الإدارة د. غازي مدني، فوافق سماحته ورجاني بأن أدعو الأستاذ محمد صلاح الدين للتعرف عليه، وخصه وألحّ على حضوره، فقد كان سماحته يتابع ما يكتبه الرجل -يرحمه الله- في زاويته الشهيرة (الفلك يدور)، وفعلا، كان لقاء امتنّ لي فيه كثيراً أستاذنا الفقيد، نوّر الله قبره بأعماله الصالحات.

كتب عن سيرته الكثير، وتناول بعض الكتبة من زواياهم ما يحملون للفقيد من مكانة، بيد أنه استلفتني ما كتبته الناشطة الكبيرة د. سهيلة زين العابدين، بأنه تبناها في بدايات الثمانينيات الميلادية من القرن الفارط، وطبع لها كتبها، وشجعها بالمضي قدماً في مجابهة تيار الحداثة، وقتما كان الشرعيون والدعاة بعيداً عن هذه المعركة التي كانت فيها د.سهيلة فارسة من فرسان الأصالة، تصطف بجانب محمد عبدالله مليباري ومحمد الشيباني يرحمهما الله..

للفقيد سمات عديدة، ربما أبرزها مروءته ونبله، وأتذكر أن أحد الكتبة هاجمه في مقالة غاية في السوء، ولمز فيها وغمز أستاذنا الكبير، وعرّض به بطريقة شنيعة وسوقية، إلا أنه لم يلتفت لها ولم يأبه أبداً، وطالبه البعض أن يردّ فكان يبتسم ابتسامة الكبار، وطويت تلك الصفحة وقد زاد الرجل مكانة ورفعة في المجتمع. تعلمت من موقفه درساً كبيراً بأن الرجل الناجح والكبير تتناوشه السهام لأنه كبير وناجح، والردّ الصحيح هو عدم الالتفات على الإطلاق لتلك البذاءات، وأن أمضي في مشروعاتي وعملي، فالإنجاز هو الردّ المخرس لكل تلك الأقلام والقلوب التي تحمل الإحن والضغائن والحسد.

في اتصال هاتفي مع أستاذي الجليل بكر بصفر عن الفقيد، كان يردّد:"كم كان نبيلاً أبو عمرو، لم أر أحداً في نبل الرجل"، فقد كان مشروع ملف (قطوف) الصحفي يخرج باسم دارته الإعلامية، وكان أستاذنا د. سالم سحاب الذي تربطه به آصرة أخوة هو من توّسط لنا عنده، وطيلة عشر سنوات، لم يطالب بأي مقابل، ولم يكلمنا عن أية ملاحظة، بل وأحياناً يقطع الملف عنه لظروف البريد أشهرا عديدة ولا تصله، ولم يتكلم أو يطلب الملف، إلا إذا التقاني، ويسألني عن أسباب الانقطاع وبكثير من الحياء والخجل أعتذر له. كان بإمكانه أن يكلمنا مدير مكتبه، ولكنه لم يفعل، وظل معنا بهذا التعامل النبيل حتى أغلقنا الملف.

تحمّس كثيراً -يرحمه الله- لمشروع صحيفة (الأمة) وطلبنا رأيه، وشجعنا، وأراد الإخوة في مجلس الإدارة أن يقوم مكتبه (وكالة مكة) بإصدار العدد صفر، ووضع رؤية وتصور الصحيفة، وكانوا مصرّين عليه بشكل ملحّ لصورته وسمعته الحسنة عندهم، بيد أنه اعتذر؛ لأن مكتبه لا يتوافر على مثل هذه الخدمات، وأحالني إلى مكاتب إعلامية أخرى، إلا أن الإخوة أصرّوا عليه، وتحت إلحاحي، وحماسه لصحيفة إسلامية وافق يرحمه الله، ولكن الظروف لم تسنح بالنسبة له، وشكر له الزملاء في (الأمة) حماسه ونصحه لهم، وقاموا بزيارته لشكره.

كل ما ألتقيه، أطالبه بأن يسمح لي بمكاشفات معه، أسبر غور ذاكرته الملأى، وكنت أقول له: "إن تأريخ الصحافة السعودية عندك يا أبا عمرو، فهلم ووافق" ، فكان يجيب بلغته البسيطة الهادئة، المصحوبة بابتسامة أخ كبير: "استسمنت ذا ورم يا أبا أسامة، اذهب إلى غيري، فهناك من هو أجدر مني، وأكثر خبرة، ودعني أنا في الأخير"..

كنت أقوم بزيارته في مكتبه الصغير، وكان يصرّ على تقديمي وقت الصلاة للإمامة، وعبثا أتحاشى ذلك، إلا أنه بأدبه الرفيع يقدمني، وألتقيه كل عام عند معالي الوالد أحمد زكي يماني في بيته بالحمراء بعد الإفطار في رمضان، حيث نجتمع مع لفيف من المثقفين، ويكرمنا الزميل نجيب يماني بالدعوة، ونتبادل مع معالي الشيخ يماني كثيراً من الشؤون الفكرية والأخبار الحديثة، ويكتفي هو بالاستماع، إلا إذا استنطقه معالي الشيخ بطريقته الآسرة ـ معاليه يكنّ كثيرا من التقدير والاحترام لفقيدنا ـ فيعلق أبو عمرو باقتضاب ويعود ليستمع فقط، والمجلس بأكمله يعرف بأنه يتوافر على معرفة عريضة، ولكنه الأدب مع الكبار فلا يتعالم أمام من هو أعلم منه، نصلي العشاء والتراويح في بيت معاليه، وننصرف بعدها، وكانت تلك فرصة مثلى أن ألتقيه، وهو يسألني عن بعض ما يعنّ له، وعن أخباري يرحمه الله.

كم تمنيت لو احتفينا بالرجل في حياته، وشكرا لنادي جدة الأدبي على التفاتته لهذا الرجل، وتخصيص أمسية عنه خلال برنامجه القادم، ولكني أسأل عن هيئة الصحافيين، وطالبت لمرات عدة بتخصيص احتفالية لتكريم رائد إعلامي كل عام من وزن محمد صلاح الدين، هناك إعلاميون عمالقة يستحقون ذلك، من أمثال د. فهد العرابي الحارثي، و د. هاشم عبده هاشم، والأستاذ أحمد محمود. ليت شباب الهيئة يتبنون هذا التكريم، فلا أروع للإنسان من أن يكرّم في حياته.

رحم الله محمد صلاح الدين، فقد كان مدرسة صحافة وقبلها مدرسة أخلاق ونبل.