الأجيال الجديدة تفتقر لعمق التفكير، ينقصها النضج، والرؤية المبشرة بوعي منتج، مبدع وخلاق. القراءة في تقهقر، فالكتاب أخذت منزلته في النفوس تضعف لصالح الشاشة المضيئة. من يطلق أفكارا كهذه، يجانب - في نظري – الصواب، وربما يتحدث عن محيطه الذي يبصره ويعرفه فحسب، فالكون غدا تجمعات صغيرة كثيرة ومتشظية في كل الاتجاهات، فتتتها التكنولوجيا، حد الحجب عن بعضها البعض، كل تجمع يظن أنه العالم وأن حدود الكون تبدأ منه وتنتهي إليه. وفي الوقت ذاته، من يردد هذا الكلام، يتصل بحقب تاريخية سابقة سيطرت فيها نفس أنماط التفكير على التصور الذهني للواقع. مع بدايات القرن العشرين، كان يقال إن الراديو زاحم الكتاب، والناس مرهقون نتيجة الجهد العصبي الذي تتطلبه حركة الحضارة الآلية، فيكتفون بأن يسمعوا دون أن يتعبوا أنفسهم في القراءة، وتأتي السينما بعد ذلك لتعزز نفس الكسل، مما حدا بكتاب تلك الأزمنة بأن يروا في ذلك محنة خطرة على مستقبل الإنسان، لأمرين، أولهما أن كل ثقافة حقيقية هي "اختيار" و"مجهود"، والمرء لا يختار ما يسمعه في الراديو ولا ما يراه بالسينما، كما أنه لا يستطيع أن يتثقف ثقافة حقيقية، خصبة وعميقة ما لم يبذل مجهودا، فيصبر على قراءة الكتّاب العميقين، وهؤلاء عادة لا تسلم الصفحة التي يكتبونها كل ما بها عند القراءة الأولى (أتذكر هنا محليا الروائية رجاء عالم وضجر البعض من كتاباتها)، فلا بد من معاودة قراءتها والنظر فيها بإمعان، فأنت عند كل قراءة جديدة تكتشف معاني دقيقة، وتستوحي آراء جديدة، تخصب نفسك وتفتح أمامك آفاقا لم تعهدها، وكل هذا غير ممكن باستماعك إلى الراديو الذي يتدفق كالسيل، حاملا إليك أخلاطا من كل شيء أو بمشاهدة السينما. تلك رؤية قال بها كتاب ونقاد تلك الحقبة.

لو تأملت برهة لربما وجدت أن النمط ذاته من التفكير، يستمر مهيمنا كسلطة على أذهان الكثيرين وهم يرقبون كل هذه التحولات المريعة التي شهدناها في العقد الأخير، على مستوى الوسائط وأدوات التواصل، حتى بات مشهد (تحلق عائلة بكاملها حول الأجهزة الإلكترونية) فكرة ملهمة تكررها عديد رسومات الكاريكاتير عبر العالم كله.

قبل أكثر من مئة عام، ذهب النقاد إلى ثاني الأمرين، وهو أن هذه الوسائل ستنتهي بأن تقتل الفردية، فكل الناس يسمعون نفس الأحاديث بالراديو ويشاهدون نفس الأفلام بالسينما ما ينتهي بهم إلى أن يصبحوا نسخا متشابهة كعلب الببسي، لا أصالة لأي منها، فتصير عقليتهم عقلية القطيع. والله أعلم.