تشكل باكستان قيمة استراتيجية وجيو سياسية بالغة الأهمية لكل القوى الراغبة في أن تلعب دوراً رئيساً في منطقة جنوب ووسط آسيا. وقد ظلت نقطة "ارتكاز" طيلة فترة الحرب الباردة وزادت أهميتها إبان دخول الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها في معركة "كسر العظم" مع الاتحاد السوفيتي، إذ كانت "مسرح عمليات" إخراجه من الأرض الأفغانية وحرمان وريثته (روسيا) من الوصول إلى المياه الدافئة.. وتكمن أهمية باكستان، بالنسبة للصراع الدائر على الأرض الأفغانية (المعلن والمخفي)، في موقعها الجغرافي وامتدادها السكاني المتصل بالعنصر البشري الغالب (البشتون) إلى جانب مخزونها من معلومات استخباراتية عن الشأن الأفغاني، وما يتعلق بقدرات طالبان ـ بشقيها الباكستاني والأفغاني ـ ثم القدرة القتالية التي يتمتع بها جيشها فهو يعد واحداً من أقوى الجيوش في المنطقة وأكثرها تماسكاً وحرفية ورسوخ تقاليد مما يوفر لحلفائها سنداً قوياً يمكن الاعتماد عليه في مواجهة القوى المناوئة.
ورغم هذه الأهمية الاستراتيجية والجيوسياسية ـ وربما بسببها ـ لم ينجح هذا البلد في ترسيخ نظام سياسي مستقر منذ استقلاله وانفصاله عن الهند عام 1948، فقد ظلت تتنازعه "هويتان" أو وجهتان: إتجاه شغوف برؤية "الحلم" الذي قامت من أجله باكستان أي إنشاء دولة "للإسلام" في شبه القارة الهندية.. ويشكل هذا الحلم "هاجسا" لتيار عريض في الشارع الباكستاني تستثمره وتحركه وتقوده زعامات دينية وأحزات ذات توجه ديني تتصل في خطابها مع الحركات الإسلامية المعاصرة. واتجاه آخر يسعى لبناء "دولة حديثة" دون أن يبدو معارضا لثقافة المجتمع المحافظ. لم ينجح هذا التيار في بلورة رؤية جامعة تعطيه قوة دافعة في اتجاه هدفه، فقد اختلطت في نسيجه أفكار يسارية وليبرالية وقومية، وفي إحدى مراحله تطلع إلى النموذج التركي الكمالي. ولأسباب كثيرة وأخطاء متكررة لم تستطع البلاد أن "تحزم" أمرها في اتجاه معين الأمر الذي أربك خطواتها وشل فعالياتها السياسية وأهدر طاقاتها وبدد ثرواتها. وكان من نتائج تلك الإخفاقات بروز أمراض "الإقليمية" والعرقية والطائفية حتى بين الأحزاب الوطنية الكبرى، فهناك تمحور "البنجابية" حول آل نواز شريف وبروز النزعة "السندية" حول آل بهوتو وتعاظم الدعوة البشتونية (بختوان خوا) في المناطق القبلية.
هذه "الملابسات" وضعت حكومات إسلام أباد دائماً على "حافة الهاوية" لحفظ توازنها على حبل تناقض المصالح الخارجية ومشاعر الشعب الباكستاني. وأوضح مثال لذلك العلاقة مع الولايات المتحدة الأمريكية، فرغم قدمها والشعور بالحاجة إليها إلا أن مشاعر الشعب الباكستاني ـ في عمومه ـ ليست تجاه واشنطن باستثناء قطاعات من المؤسسة العسكرية وطبقة رجال الاقتصاد والمعجبين بأسلوب الحياة الغربية.
ويشعر الباكستانيون ـ حتى السياسيين منهم ـ أن واشنطن ترتكب أخطاء فادحة في حق إسلام أباد ولا تساعد الحكومات فيها على التوفيق بين مقتضيات التحالف وبين الانسجام مع رغبات الشارع الأمر الذي يحرج الحلفاء ويضعف مواقفهم.. ويتذكر الباكستانيون الموقف "الحرج" الذي أوقعت واشنطن فيه حكومة نواز شريف حين طلبت منها التعاون لاعتقال المتهمين بمحاولة تفجير مركز التجارة العالمي عام 1993، فاضطرت حكومة شريف أن "تتهاون" في المبادرة إلى تلبية هذا الطلب خوفاً من إغضاب الشارع وإعطاء خصومها السياسيين ذريعة لإسقاطها، لكن هذه الخشية أو القدرة على المقاومة لم تستطعها حكومة السيدة بي نظير بهوتو التي انخرطت في جهود مشتركة لاعتقال وترحيل "الأفغان العرب" والدخول في "خطة" لإخراج زعماء الحرب وقادة "الجهاد" ضد الاتحاد السوفييتي (برهان الدين رباني وحكمتيار).. وكان من ثمرات الخطة "علاقة" ولدت من رحمها "طالبان"، فهي ثمرة زواج مصالح بين الولايات المتحدة الأمريكية وحكومة بي نظير بهوتو رغم التناقض البين بين أفكار حزب الشعب ومولوده الجديد "طالبان" (أذكر أنني أبديت هذه الملاحظة للجنرال بابر وزير داخلية بي نظير بهوتو والمشرف على قيام طالبان فقال لي "هؤلاء أولادي لتنظيف الساحة الأفغانية من المجاهدين المسيسين"). ويذكر الجميع أن أولى المهام التي أوكلت لهؤلاء "الطلاب" المسلحين هي حرق حقول زهرة الخشخاش وإغلاق معسكرات الأفغان العرب.. ويشير بعض الباكستانيين بشيء من المرارة، إلى أخطاء السياسة الأمريكية أيام جورج بوش الابن حين أهانت كبرياء المؤسسة العسكرية الباكستانية وأحرجتها وصورتها في أعين مواطنيها المعجبين بها أنها تعمل وفق "إملاءات" خارجية ولا تتحرك من واجبها الأول: حماية الوطن ومصالحه.. ويدللون على تلك السياسة "الخرقاء" التي هزت الضمير الباكستاني بطلب إدارة بوش من باكستان إعطائها "كل" ما لديها من معلومات عن حركة طالبان و "أمرتها" بفتح أجوائها للطيران والصواريخ مع توفير ما تحتاجه من مساعدات لوجستيه.. هذه "الإملاءات" وضعت إسلام أباد في موقف بالغ الحرج شعر معه الباكستانيون أن بلادهم في خطر وأن قوتهم (الأسلحة النووية) التي نقلتهم من تحت ظلال "التهديد" الهندي إلى واحة "الندية" معرضة للخطر. وبلغ تجاهل واشنطن بوش لمشاعر حلفائها أن لوحت لإسلام أباد بإمكانية اتهامها بما جرى صبيحة 11 سبتمبر 2001 في نيويورك وواشنطن إذا لم تستجب. وكان تحديا صعبا في تاريخ هذا البلد المثقل بالأخطاء السياسية والفساد المالي والتراجع الاقتصادي وتمدد عباءة الفقر على غالبية السكان. وكان على إسلام أباد أن تتخذ من المواقف ما يحول دون تهديد وجودها، ولم تكن الخيارات كثيرة، ويسجل التاريخ للشعب الباكستاني وقواه السياسية أنهم رغم الغضب والشعور بالإهانة ـ وقفوا موقفاً إيجابياً حيال قرارات الجنرال برويز مشرف الذي اختار أن يخضع للرغبة الأمريكية حتى يجنب بلاده دخول نفق حرب مجهولة العواقب مضمونة الأضرار وقد لا تنتهي على باكستان موحدة.
تشابك خيوط النسيج المحلي وتقاطعها مع المصالح الدولية والنزاعات الإقليمية انعكس على الحياة السياسية وأحدث توترات متنامية نقلت الهواجس والتناقضات من التأثير السلبي على التنمية إلى الخوف على مستقبل البلاد برمتها مما يدعو المهتمين بشأنها إلى اتخاذ مواقف إيجابية تساعدها على تجاوز حراجة الظرف.
وباكستان ـ منذ قيامها ـ وقفت مناصرة ومتضامنة مع القضايا العربية عامة والخليجية بصفة خاصة، نتيجة لقواسم مشتركة عديدة يتداخل فيها الاقتصادي والسياسي مع المذهبي، فباكستان أكبر دولة مسلمة سنية في المنطقة يمكنها أن "تعادل" الثقل الإيراني، الذي تعاظم دوره بعد ثورتها التاريخية، وهذا "التوافق" يشكل أهمية إستراتيجية للمنطقة الخليجية العربية ويستحق اهتماماً من الخليجيين يحفظ لباكستان "مزاجها" المعتدل ويساند الاعتدال (المؤسسة العسكرية بعقيدتها ومهنيتها) والأحزاب الوطنية التي تتبنى الاقتصاد الحر، ويساعد على الاستمرار في تشكيل التيار الغالب في الحياة السياسية مع تنمية تبادل المصالح الاقتصادية. ومما يساعد على زيادة التقارب الخليجي الباكستاني، على المستويين الرسمي والشعبي، تنمية المصالح الاقتصادية وتطوير قنوات التواصل مع التيارات الفاعلة، الأحزاب ذات التوجه الديني والتجمعات الإقليمية ووسائل الإعلام، خاصة الصحافة المكتوبة الناطقة باللغة الأردية، من أجل فهم أوسع وأعمق وعدم تركها تتعرض "لإغراءات" قوى إقليمية مناوئة.
أعتقد أن الاهتمام بالشأن الباكستاني في الساحة العربية لا يلقى من العناية ما يساوي أهميته.. فهذا البلد ليس "جماعات" متطرفة ونزاعات عرقية ـ رغم وجود ذلك ـ فقط بل هو بلد مهم له وزنه المعتبرفي "حزمة" المواقف العسكرية والسياسية ولعبة المصالح ويستحق أن ينال أكثر مما يعطى له.