لا يملك هذا الصابر المؤمن من رحلة الحياة إلا ما كان من هبة الله عز وجل من العقل ومن نعمة الصبر والاحتساب عند المصيبة. لا يملك إلا ما كان من الولد وهو يرعى الأكبر إلى الأصغر مؤمناً أنهم رحلة التغيير إلى قادم مختلف. وبعيد صلاة التراويح لتاسع شهرنا الكريم المنصرم، كان يستقبل ذلك الخبر الصاعقة. قصة أطفال ومراهقين من ذات الأسرة الواحدة تودي بحياة الابن الأكبر، الذي لم يكمل الدراسة الثانوية بعد. نقاش بسيط يتحول إلى طعنة قاتلة. شابان كما يقول محضرالتحقيق، كانا يتمازحان بعد صلاة المغرب، ثم يقتل أحدهما الآخر بعد صلاة التراويح. شاب يقتل ابن خاله المباشر ليضع الأب بين براثن أصعب قرار في الحياة وكم هم الذين يثبتون أمام غوائل هذه الحياة ثم يواجهونها بقرار من النادر أن يتخذه فرد من هذه البشرية. في الطريق إلى المستشفى تأتيه الأنباء من مرافقيه بالتقسيط. تسريب للأخبار ما بين الطمأنة وبين جمل أخرى تحاول وصف الواقع المرير حتى انتهى التقسيط وهو يستمع إلى الجملة الأخيرة: إنا لله وإنا إليه راجعون.
ومن دون جملة واحدة مترددة. بكل الحزم والجزم، يطلب من مرافقيه أن يأخذوه إلى مقر الشرطة قبل المستشفى. في الشرطة، وأمام هول الجميع وذهولهم، يطلب ورقة بيضاء ليكتب فيها تنازله لوجه الله ثم يختار شهوده، وللمفارقة، كان والد القاتل (نسيبه) وأخو زوجته يطلب منه التريث ويذكره أنه لو كان في مكانه لما تنازل في هذه اللحظة بهذه السهولة. بعد نصف ساعة فقط من الحادثة ودون جملة واحدة من أحد من الخلق. كان يذكرهم محتسباً بفضل الشهر، وبفضل ذات الليلة. كان يريد أن يجمع من شمل الرحم ما كانت هذه الحادثة كفيلة بقطعه إلى الأبد. يعود إلى أهله في البيت المتواضع ليطلب أن تكون مراسم العزاء في بيت والد القاتل، ولو أنكم تعلمون ما بينه وبينهم من روابط الحياة لفهمتم ما يستحيل على العقل البشري أن يفهم.
في قصة هذا الإنسان الكبير الشهم ما يكفي لكل الذين تقطعت بهم أطماع أنفهسم وراء كل زائف منقول ذاهب منته من أكاذيب المال أو حب الشهوات والمال. به عبرة لمن قطعوا أرحامهم وأهلهم ومعارفهم من أجل تراب ينتهي للتراب. هو كما عرفته فقير معدم لا يملك حتى اليوم ولا مقراً واحداً في هذه الأرض، ولكنه اشترى ثواب الله في بضع دقائق حين جاءت فضائل الآخرة صدفة إليه. انتبهوا له.