لم تعد معاركنا الفكرية بذات الإثراء الذي كان في السابق حين كانت الصحافة وبعض المجلات الثقافية مضمارا لسجالات فكرية فتحت على مدى سنوات آفاقا واسعة للمعرفة بالرغم من حديتها أحيانا ودورانها في حالات كثيرة حول مواضيع محددة مثل ما حدث بين علامة الجزيرة العربية ومعاصره حينها الأديب عبدالقدوس الأنصاري ـ رحمهما الله ـ حول ضم (جيم) جدة الشهيرة وكذلك مسمى مدينة (جيزان) وهو الخلاف اللغوي الذي شارك فيه عدد من الأدباء، وقلبت فيه صفحات المعاجم والكتب وتفجرت من خلاله الطاقات اللغوية والأدبية بين الأديبين وقد كانت الساحة الثقافية المستفيد الأول والأخير من ذلك التجاذب.

ولسنا هنا بصدد استعراض إفرازات ذلك الخلاف بين الراحلين الذي تعرضت له كثير من الأقلام إلا أن من يتأمل ساحتنا الثقافية اليوم يجدها وإن لم تخل من ملامح بعض المعارك الفكرية في أكثر من اتجاه إلا أن الواضح أن تلك السجالات لا تعتمد المصادر والمراجع العلمية وسيلة لتدعيم وجهات نظر المختلفين بقدر ما تعتمد على سقطات الخصوم بدلا من الاستفادة منها لتقديم رؤى جديدة تحيل الخلاف إلى قناة لرفد الشارع الثقافي بكل صنوف المعرفة.

نعم لقد استطاع كل من الأديبين حسن عواد وحمزة شحاتة مثلا ولسنوات بالرغم من حدية الخلاف الذي وصل بينهما كما تروي مصادر الأدب حد التطاول قبل أن يصل نهايته استطاعا تقديم آراء فكرية حرية بالتدوين والاهتمام لما فيها من إذكاء للفهم والتأمل من أديبين بحجمهما، وقد حفلت الساحة الثقافية حينها بقصائد ذات فنية عالية كما أكد عدد من النقاد وقد نشرتها جريدة (صوت الحجاز) وغيرها وكان الجميع يترقب نتاج الأديبين بلهفة لا كما يحدث اليوم من سجالات عادة ما تدور في فلك الخلاف الشخصي ليس أكثر.

وإذا ما نظرنا لحجم المشاركين في تلك السجالات من أدباء حينها مثل أحمد قنديل ومحمود عارف ندرك أهميتها ومدى تأثيرها في الشارع الثقافي. وقد تصدى عدد من الأدباء لرصد تداعيات تلك المعارك التي ساهمت في دفع مسيرة الحراك الثقافي رغم أنها لم تخل من بعض التجاوزات.

أتصور أن الساحة باتت أكثر من أي وقت مضى بحاجة لمثل تلك المعارك التي تشرع الأبواب معها لقراءات مختلفة وعميقة خصوصا في ظل وجود إعلام جديد تعددت فيه منابر التعبير، ووسائل التأثير شريطة أن تكون سجالات مهنية وموضوعية وأن يكون الهدف منها إثراء الساحة لا إدخالها في أتون صراع شخصي لا يضيف شيئا.