في البداية، يجب أن أوضح أنني استخدمت مسمى "الدراما السعودية" في بداية عنوان المقال فقط لتعارف الناس عليه؛ وإلا في الحقيقة لا توجد دراما سعودية، بمعنى صناعة الدراما؛ وإنما الذي يوجد في السعودية هو أعمال درامية سعودية، أي إنتاج درامي سعودي. يمكن أن نقول الدراما الأميركية أو الهندية أو التركية أو السورية أو المصرية أو حتى الكويتية، وذلك لوجود صناعة درامية محترفة في كل منها، متمثلة بوجود مسرح دائم يعمل منذ عقود، وكذلك معاهد وكليات فنية عليا ونقابات فنية وشركات إنتاج ضخمة وأستوديوهات متطورة ومدن إعلامية وحفظ حقوق مادية ومعنوية، وتسويق محترف، وثقافة محلية حاضنة لها، وغيرها من متطلبات البنية التحتية والفوقية للصناعة الدرامية الاحترافية. في السعودية لا يوجد سوى وزارة إعلام تشتري الإنتاج المحلي الدرامي وتبثه، على علاته، ولا تهتم بتطويره والرقي به، بالدرجة الجادة المطلوبة، حيث إن ميزانية قناتها الأولى موفرة حكومياً، وليست بحاجة لجلب الإعلان، كما أن " فاقد الشيء لا يعطيه".
الذين يعملون في مجال الدراما في السعودية، يعملون بدون أرضية صلبة ولا بنية تحتية داعمة لهم ولا بنية فوقية "ثقافية" محفزة لهم؛ إذاً هم مجتهدون، يتعلمون عن طريق التجربة والخطأ، ولذلك تقبلنا إنتاجهم على علاته، كما تفعل وزارة الإعلام، مثلما يقول مثلنا الشعبي: "مالك غير خشمك ولو كان عوج". ومع كل هذا ومع شكرنا وتقديرنا للعاملين في الدراما، وتفهمنا لظروفهم الصعبة التي يعملون من خلالها؛ إلا أن إيماننا بقدراتهم الكامنة، يجعلنا نطلب منهم، ليس بذل المزيد من الجهد، ولكن توجيه الجهد المضني الذي يبذلونه، بشكل أكثر عملية وفنية، كما تتطلبه أبجديات الدراما.
العلة الرئيسية التي أصابت الدراما في السعودية، منذ بداياتها الأولى، ولازمتها حتى الآن، هي اختزال مواضيعها بعرض المشاكل الإدارية والاجتماعية والاقتصادية التي تواجه المواطن السعودي. بما أن بدايات الدراما في السعودية انطلقت من مسارح المدارس والمراكز الصيفية منذ الستينات الميلادية، فكان الطرح الوعظي الاجتماعي وتناول مشاكل انقطاعات التيار الكهربائي وغش التجار وما شابه ذلك، هي مواضيعها المحببة أو الممكن التعرض لها حينها؛ ولذلك لاقت رواجاً على المسرح، أو ما نسميه بالمسرح المدرسي التلقائي أو البدائي. وهذا مقبول ومعقول كبدايات، ينطلق منها العمل الدرامي، ليتجاوزها لاحقاً لما بعدها في سلم أولويات المواضيع الدرامية الاحترافية، ولكن لتشتت مسيرة الدراما المسرحية المدرسية وانقطاعها، جمدت مواضيعها في مخيلة من أتى بعدها، وجُعلت مادة سهلة ومستساغة لمواضيع المسرح أو الدراما من قبل العاملين بالدراما والناس المتلقين لها، حيث لا وجود لمحظورات عليها لا سياسية ولا دينية ولا حتى اجتماعية، مع بساطة وسطحية الطرح فيها.
والعلة الثانية والتي كذلك لازمت الدراما في السعودية، هي الطابع الساخر أو الكوميدي، وأصبحت جزءا لا يتجزأ منها، أو هي كلها. الكوميديا أو الطرح الدرامي الساخر، يعتبر من أعقد أنواع الطرح الدرامي، لا من ناحية الكتابة ولا الأداء التمثيلي، فلا يجيده إلا القلة، إن لم نقل الندرة، في الدراما منذ تأسسها في اليونان قبل ثلاثة آلاف سنة، حتى الآن، ولكن معظم ما يطرح من أعمال كوميدية في الدراما في السعودية هي، لن أقول عنها إنها تهريج، ولكنها كوميديا ساذجة أو بدائية في أحسن أحوالها، والسبب في ذلك، كذلك سنوات بداية المسرح المدرسي السعودي، في الستينات الميلادية. حيث أرى أن النقد الساخر آنذاك كان يسوق لقبول النقد أو التغاضي عنه، في مجتمع ومؤسسات لم تعتد على النقد، مع كون النقد سطحيا وساذجا، فطغت السخرية على المضمون نوعاً ما؛ حيث الجو العام كان مهيئاً لذلك من ناحية بدايات التطور والتمدن الجديدة على المجتمع، ولذلك أصبح البطل الكوميدي هو ذلك المواطن البسيط الساذج أو المتخلف الذي يتعامل مع بواكير بدايات التطور والتمدن بكل غباء وسذاجة مضحكة. وهذا دشن لما نشاهده الآن من شخصيات أبطال الدراما الكوميدية المتمحورة حول "العربجي" والقروي والبدوي البسيط الساذج، وكأننا مجتمع ما يزال مصدوما بالتحضر والمدنية والتقنية، ولهذا فالنقد الدرامي المدرسي السطحي والشخوص الكوميدية البلهاء، أصبحا علامتين مميزتين للأعمال الدرامية في السعودية، ولم تستطع تجاوزهما والتخلص منهما رغم وجود تجارب أكثر نضجاً تم تقديمها في الدراما المسرحية السعودية. فمن أخصب التجارب التي مرت على المسرح السعودي وأكثرها تطوراً حقبة السبعينات الميلادية، والتي لم يبن عليها لاحقاً. وقد عمل في الدراما المسرحية في تلك الحقبة الزاهية من تاريخ الدراما في السعودية، فعلا، كوادر مؤهلة فنياً وفكرياً، وتم التعاقد مع كوادر فنية درامية عربية محترفة، لتعمل مع كوادرنا الموهوبة وتطور من أدائها، منهم المخرج العراقي المتميز، الأستاذ سمعان العاني، الذي يعتبر وبحق زكي طليمات المسرح السعودي. وقد ذكرت أستاذنا الكبير العاني بالاسم، كجزء من الوفاء اليسير، لما قدمه ويقدمه حتى الآن وبتفان منقطع النظير من أجل الرقي بالمسرح السعودي.
وفي عقد الثمانينات، وخاصة في نصفه الأخير، تم توقف الإنتاج الدرامي المسرحي السعودي، وعليه عطاء كوادرنا التي صقلتها تجربة السبعينات حتى العقد الأول من القرن الواحد والعشرين. وهذا سبب خللا كبيرا في تراكمية الخبرة والتجربة المسرحية في المملكة، ولكن في عقد التسعينات الميلادية، أطلت علينا الدراما من شاشة التلفزيون بعد حوالي عقد من توقف الدراما المسرحية، وخاصة من خلال المسلسل الكوميدي الاجتماعي طاش ما طاش. طاش ما طاش أنقذ الدراما السعودية من الأفول الدائم، وأبقى جذوتها مشتعلة، وأعاد الاعتبار لها، مع كونه في بداياته، دمج بين تجربة المسرح المدرسي ومسرح السبعينات المتطور نوعاً ما، خاصة كون بطلي العمل عبدالله السدحان وناصر القصبي، كانا خريجي مدرسة السبعينات.
وعندما تراكمت تجربة مسلسل طاش، وانتقل من الطرح المدرسي وأخذ يتناول مواضيع درامية احترافية جادة أو بأسلوب ساخر، لم يتقبل التيار التقليدي الطرح الدرامي اللامدرسي، وأخذوا يهاجمونه وبشراسة منقطعة النظير. وبسبب تجاوز المسلسل الطرح المدرسي وتناوله لموضوعات درامية احترافية، خلق له قاعد مشاهدين جماهيرية على المستويين المحلي والعربي، وبلا منافس. القائمون على العمل قرروا إيقاف العمل، رغبة في تجاوزه، وعدم سجن أنفسهم وطاقاتهم بطابع المسلسل إلى ما لا نهاية.
نحن الآن نشاهد الأعمال الدرامية في السعودية في السنة الأولى، بعد طاش، وللأسف الشديد، معظمها إن لم أقل كلها، أتت مدرسية، أي أرجعتنا لما كنا عليه في مسرح المدارس والمراكز الصيفية في الستينات، وذلك بسبب تقليدها لنمط طاش الذي تجاوزه طاش قبل توقفه، وعليه يجب تجاوز الطرح "الطاشي" للأفضل منه أو لطرح البديل عنه. الدراما لم توجد لحل المشكلات السطحية ولا للإضحاك الساذج، كما كنا نعتقد، بل هي أكبر بكثير من هذا. الدراما باختصار ليست هي برنامج "سلامتك سلامتك نود لك سلامتك"، ولا عكس الواقع، بل هي محاكاة للواقع، بشروط فنية وأدبية وتقنيات خاصة بها؛ إن لم يتمكن العاملون بالدراما من المسك بأبجديات خيوطها، فليدعوها قبل أن تدعهم جماهير الدراما، بلا أسف.