مر الثعلب يوماً على حائط عنب، ورأى فرعاً من الكرم (بتسكين الراء) يتدلى بإغراء من على قمة السور، ممسكاً بعطف وحنان بعدد من العناقيد، الطويل منها والقصير، صفاء حبات العنب أظهر ما بداخلها، وكبرها أشعل لهيب الجوى في أحشاء الثعلب، وأسال لعاب العشق والغرام فيه، لكنه قاوم المغريات، وتصدى للشهوات، وحارب المستلذات، أحس بالثقة في نفسه تتعالى بسبب هذه المقاومة، ارتفع صوت الحكمة في داخله، وانساقت قدماه بثقة المنتصر-بصورة مؤقتة- منصاعة لهذا الصوت، مدبرة عن هذا البهرج الخادع والزيف الكاذب، فكيف لأبي الحصين أن ينتهك الحرام ويأخذ ما لا حق له في أخذه؟ وانتشى بهذا الشعور، وما لبثت القدم الثانية أن تتبع الأولى مدبرة إلا وظهر الثعلب ثعلباً، وانقلب الحال، واستدار الاثنان بسرعة غريبة وبمهارة عالية، قفزاً إلى السور طلباً لدلال حبيبات العنب، حتى الثعلب نفسه استغرب هذه السرعة وهذا الانقضاض، لكنه ما أفاق من سكرة عشقه للعنب إلا بعد أن أحس بألم السقوط وأشد منه ألم الخيبة، عاود الكرة، وانقلب صوت الحكمة مكراً ودهاءً، استعد الثعلب ببضع خطوات إلى الخلف، كأنه في مسابقة أولمبية خاصة بالثعالب، وتقدم مسرعاً ووثب عالياً، ووصل أعلى من المرة الأولى لكنه ما نال المشتهى وما أطفأ نار الشوق، فعاود الكرة تلو الكرة، وبعد المحاولة ما بعد العاشرة، بدأ يستمع لصوت الحكمة من داخله مرة أخرى، ولام نفسه كثيراً لأنه لا يستمع لهذا الصوت الذي يقطر حكمة وسداداً، فأدار ظهره للحائط، ونفض عن نفسه غبار ذل الشهوة وخداع العينين، فلما استقام واقفاً، ولى مدبراً بخطى وئيدة، ورأس يتجه إلى السماء بأنف شامخ، وعينين مسبلتين قد ملأهما خشوعاً وطمأنينة، وكأن أحداً ما رآه ولا سمعه، بل مضى يردد صوت حكمته بتنهيدة عالية :”اللهم لا تجعل لنا في الحرام نصيباً".
تلك كانت قصة طريفة مرت بي قديماً وعلقت في ذاكرتي، فأعدت صياغتها حديثاً لأشارك القراء الكرام متعتها وظرافتها، ولا يخفى وجه دلالتها، وكم في القصص من تأثير على الرأي والوعي، بل حتى تفهم فكرة ما بشكل جيد فإن قصة واحدة أو مثالاً واحداً يغنيك عن مجلدات، قرأت مرة في الأمثال ما حكي عن أثر المواعظ أن رجلاً أخذ ذئباً فجعل يعظه ويقول له: "إياك وأخذ أغنام الناس لئلا تعاقب". والذئب يقول: خفف يا أخي واختصر فهناك قطيع من الغنم أخشى أن يفوتني!! ومن الذئاب ما يسكن البيوت مع الناس ومنها ما يسكن الغاب، وشعارهم كما قال الشاعر:
إذا لم تكن ذئباً على الأرض أجرداً
كثير الأذى بالت عليك الثعالب
وإذا تركنا الذئاب جانباً، وتركنا ثقافة كيف تكون ذئباً حتى "لا تأكلك الذئاب" هذه الثقافة التي يتنفسها البعض ويتمرغ فيها آخرون، والتفتنا إلى صاحبنا الخروف المسكين الذي أراد يوماً أن يخاطب سيده الذئب إذ أخذت الخروف النخوة يوماً فأراد أن يغضب غضبة الكرام ويكتب للذئب أن التمس غيري فإن لحمي صار مراً، فكتب الخروف أول ما كتب "إلى الذئب" لكنه ما استطاع أن يمضي في الكتابة لأنه استكبر الذئب واستصغر نفسه، فالذلة والحقارة أصبحت جزءاً من طبعه، ولو كتب ما كتب ما كان عليه لوم ولا عتاب فكلاهما من ذوات الأربع، ويتابع فيلسوف الأدباء الدكتور زكي نجيب محمود في كتاب جنة العبيط محاورته لهذا الخروف (بتصرف): (عرفتك خروفاً حين رأيتك تهز قرنيك مفكراً كيف توجه الخطاب لسيدك الذئب، بحيث ترضي كبرياءه وتشيع في نفسك ذل العبيد؛ فكتبت أول ما كتبت "إلى حضرة الذئب"، ولكنك رأيت المسافة بينكما تكون بمثل هذا الخطاب أصغر مما ينبغي، فلا يكفي أن تتجه بالخطاب إلى "الحضرة" مباشرة... فمحوت وكتبت: "سيدي حضرة الذئب"؛ لكنك وجدت ثانية أن الشقة بينكما لم تزل أقصر مما ينبغي، فهززت قرنيك ومحوت ثم كتبت: "سيدي ومولاي حضرة الذئب"؛ لكنك وجدت مرة ثالثة أن المسافة لم تزل بعد قصيرة، وأنها ينبغي أن تطول بقدر المستطاع فمحوت وكتبت:" سيدي ومولاي حضرة صاحب المجد الذئب"؛ لكنك للمرة الرابعة لم ترض عما كتبت وطاف برأسك خاطر أزعجك وخوفك، إذ قلت لنفسك: إن الذئاب في الغاب كثيرة، فكيف أسوي بين سيدي هذا وبين زملائه؟ فمحوت وكتبت: "سيدي ومولاي حضرة صاحب المجد ذئب الذئاب وملك الغاب"؛ وهنا افترت شفتاك عن ابتسامة رأيت فيها الغبطة والرضا).
وفي مقالة أخرى في الكتاب نفسه يسوق قول الشيخ: الفيلة تلد ولا تبيض-والمشكلة المراد حلها هي هذه: لو كانت الفيلة لتبيض، فماذا يكون لون بيضتها؟ في الجواب عن هذا السؤال اختلف العلماء؛ يقول عمارة بن الحارث بن عمارة تكون بيضاء، واستدل على صحة قوله بدليل من القياس ودليل من اللغة... ثم يتبع ذلك بظرف لطيف وباستدلالات افتراضية مرحة فيها تحليق للفكر في عالم الفراغ، وعلق في كتاب قصة عقل هدفه من سوق المقال إشارة إلى أن حياتنا الثقافية لا تتصدى لمشكلات الحياة الحية الجادة، بل يشد اهتمامها مسائل افتراضية تؤخذ من بطون الكتب، كما أن المنهج الفكري الغالب هو الاستنباطي لا الاستقرائي..
الأساليب غير المباشرة في التأثير على الرأي والوعي لها أهمية وخطورة فائقة؛وهذا جزء أزعم أن الكثير يبذل لتدريسه لطلبة الإعلام، كما أنه يمارس علينا صباح مساء. وحتى في التعليم لم تعد الأساليب المباشرة -في العديد من الجامعات العالمية- تمثل جوهر ما يستخدم من طرق تدريس، فالمحاضرات كطريقة تقليدية للأساليب المباشرة في التعليم قد توالت الدلائل العلمية على ضعف تأثيرها وسلبيتها في بناء عقلية علمية ناقدة ومحللة. وإنما ينمو بشدة الاتجاه باستخدام أساليب غير مباشرة كالتعليم عن طريق حل المعضلات العلمية، ويقابله في مجال التأثير على الرأي والوعي العام استخدام القصة والرواية والمثل السريع الخاطف والصورة المتحركة والصوت العذب.
ولا يفوتنكم أو على الأقل لا يفوتن أبناءكم ومن تعزون كتاب قصص الحيوان في القرآن للأستاذ أحمد بهجت الذي جعل من غراب ابني آدم وناقة صالح وطير إبراهيم وذئب يوسف وحوت يونس وبقرة بنى إسرائيل وعصا موسى وهدهد سليمان ونملة سليمان ودابة الأرض وحمار عزيز وكلب أهل الكهف وفيل أبرهة والطير الأبابيل وعنكبوت الغار رواة يحكي كل منهم قصته بمشاعره وأحاسيسه، وإن كنت أعتقد أن قصص الحيوان هذه تحمل دلالات وعبراً وسنناً اجتماعية ومبادئ منهجية في أساليب التفكير والعمل، إلا أن هذا الجهد هو عمل رائع ومحاولة جادة إلى أن نقرب من كتاب الله أكثر وأكثر.