رغم أنه كان بإمكان المفكر المصري (نصر حامد أبو زيد) ـ الذي رحل عنا مؤخرا ـ النطق بالشهادتين ليسقط عنه حد الردة، لكنه آثر أن لا يفعل حتى لا يؤسس لسلطة تفتتش في القلوب، وتشرعن لقضايا مماثلة كما صرح في آخر حوار تلفزيوني معه ببرنامج ( قريب جدا) على قناة الحرة. لم يطأطئ نصر أبو زيد رأسه ورفض المهادنة، حتى لو كانت الفاتورة الباهظة الثمن هي الاقتلاع من الأرض التي أحبها والوطن الذي عشقه! هاجر إلى هولندا ملوحا بالوداع للأهل والصحاب ومجتمعه الأكاديمي مع زوجته الدكتورة ابتهال يونس التي وقفت معه في محنته والتي يصف تضامنها معه قائلا: وقوفك ضد القبح دليل دامغ على أن الرجل شريك المرأة وليس العكس.

رغم ضيقه وألمه مما حدث له، وسيوف التكفير التي سلطت على رقبته، والحروب الجبرية التي اضطر لخوض غمارها، لم يسمح للأنواء التي عصفت به أن تجعل منه ردة فعل أو سلاحا يوجهه الغرب ليشوه به الإسلام. فقد حرص أن يبدأ أول محاضرة له في هولندا بالبسملة، ليرسل للغرب رسالة مفادها أنه متمسك بدينه، فخور بهويته، ومعتز بجذوره الثقافية، فإذا كان احتضانهم له مبني على اعتقاد بأنه ضد الإسلام، فهو يؤكد لهم أنه يخرج إليهم من قلب الإسلام ومن عمق انتمائه له. لم ينطق بالشهادتين عندما كان تحت دوائر سلطة (التفتيش)، ولكنه نطق بالبسملة عالية مدوية عندما ابتعد عنها مسجلا في كلا الحالين موقفا شجاعا وحازما.

إبان حرب إسرائيل على لبنان، كتب نصر أبو زيد مقالا ناريا ينتقد فيه الليبراليين الذين وقفوا ضد المقاومة قائلا: عقلانية الخطاب أيها السادة لا تعني اجتثاثه من جذوره الوطنية، ولا تعني تنكره للقيم الإيجابية في تُراثه الثقافي، بل ولا تعني استبعاد "العواطف" من أفق العقلانية. عقلانيتكم وضعية تجريدية تتصور الحسابات العقلية حسابات رياضية. في هذه الحسابات الرياضية تصبح المصالح الضيقة ـ الشخصية ـ هي معيار صواب "الأفكار". إنكم خائفون من فقدان مواقع هشة، ومن فقدان مُتَعٍ شخصية، أما مستقبل الأوطان فلا معني له عندكم. ألا ساءت عقلانياتكم، وسحقاً لليبراليتكم، والنصر للمقاومة".

نصر أبو زيد المفكر الحر والباحث الجاد لم يقدم أفكاره يوما على أنها حقيقة مطلقة، بل كان يؤكد مرة تلو المرة أنها اجتهادات قد يختلف معها القارئ وقد يتفق لأنها مطروحة للنقاش، فهي أولا وأخيرا اجتهادات لا يمتلك صاحبها سلطة من أي نوع لفرضها على الناس، والأهم أن صاحبها يقف ضد كل سلطة وأي سلطة تحول بين الإنسان وحريته في التفكير.

عاش نصر أبو زيد ومات وهو يدافع عن حرية التفكير في زمن التكفير، مات ولكنه سيظل حيا بأفكاره وكتبه، فحتى أزمنة التكفير لم ولن تتمكن من اعتقال الكلمة، فللأفكار دوما أجنحة تحلق بها في الآفاق!