اعتاد كثير من المسلمين إخراج زكاة فطرهم عينا، مستندين على بعض الفتاوى التي تمنع من إخراج القيمة أو البديل رغم وجود أضرار من دفع العين، ربما لم تكن لتظهر حينما كان المخرجون لها عشرات الأفراد في مدينة صغيرة قبل مئات الأعوام، بخلاف ما إذا كان عددهم بالملايين والمستفيدين كذلك، فهناك كم هائل من الأطنان سنويا تنفق وتتسبب في وجود وفرة هائلة في المخرج، إضافة لاستغلال هذه العين لبيعها عدة مرات، ناهيك عن عدم حاجة الفقير لها مهما بلغ فقره، وكان الأجدر معالجة هذه السلبيات، لكن ذلك لن يحصل مع الاستمرار على القراءة الحرفية للنص المشرع للزكاة، في الوقت الذي تعد فيه زكاة الفطر نموذجا يحتذى في مسايرة الفقه للواقع، فقد حصل لها تطور تاريخي مرتبط بالواقع أكثر من ارتباطها بالنص نفسه، فالأرز الذي يدفع اليوم قد أخذ من مرحلة تاريخية قرر فيها جواز إخراجه، ولم يؤخذ من النص، وهي المرحلة التي اشتهرت فيها عبارة غالب قوت البلد، فقد بدأت بالتوجيه النبوي بالتمر والشعير لا غير، فالنبي عليه الصلاة والسلام لم يذكر غيرهما، ثم توسعت الدائرة قليلا باتجاه المعنى ليضيف الصحابة لهما الإقط والزبيب، ثم توسعت الدائرة باتجاه المعنى أيضا وأضيف البر وأضيف مقدار جديد وهو المدان (مثنى مد) حينما اختلفت الأسعار في عهد معاوية، ثم توسعت الدائرة أكثر وأجيز إخراج القيمة في عهد عمر بن عبد العزيز، ثم توسعت ليضاف غالب قوت البلد، ثم توسعت عند المقتصرين على إخراجها عينا كابن تيمية فقال بجواز إخراجها قيمة عند الحاجة ولكنه ضيّق مفهوم الحاجة فليس كالمذهب الحنفي، فكيف نأتي بعد كل ذلك ونقول إن الحكم ثابت لا يتغير إلا في حال الضرورة، ولو كانت اجتهاداتهم نظرية مرتبطة بالفهم الأصولي أو اللغوي لحصل تضييق للدائرة مرة وتوسيع لها في مرة أخرى، لكن حينما تسير على وتيرة واحده باتجاه التوسع فهي دلالة على أن الواقع متحكم، ولكن بما أننا نقرأ الفقه مجردا من مسيرته الزمانية أو اختلافه المكاني فإنا نأخذ الأحكام بلا ارتباط بينها، فيصبح لكل قول مثول قوي ولا ينظر له كمرحلة.
إن تناول هذه المسألة مختلف تماما عن تناول الباحثين الذين ينظرون لها من زاوية خلاف الجمهور القديم مع المذهب الحنفي، حيث يتوجب النظر لها من زاوية التجديد الفقهي المراعي لحاجة العصر، لا الترجيح النظري بينهما، فالبحث ليس نظريا كما يتكرر، فحتى ولو شارك الأحناف الجمهور فإن إعادة النظر بها متعين، علما أن هذا الخلاف يبتعد عن حالتنا الراهنة وإنزاله عليها من سوء إسقاط الخلاف على الواقعة الشبيه بإسقاط النص على الواقعة، فكلاهما يحتاج لدقة، فالجمهور يمنعون إخراجها قيمة إذا كانت العين تحقق نفعا كبيرا، بحيث لا حاجة للنفع الإضافي الموجود في القيمة، فزيادة النفع غير معتبرة، أما مع عدم نفعها أصلا أو النفع الهزيل كمن يأخذها ويلقيها في مخزنه وهو ما يحصل اليوم فلا يتنزل الخلاف عليها، وإنما ينطبق عليها أصول الظاهرية التي تنظر للمعنى الظاهري وإن خرجوا بمتناقضات، فلا يتصور مذهب في الزمن السابق يجيز إخراجها عينا وهي بلا نفع.
إن حديث "أغنوهم فيها عن السؤال في ذلك اليوم" هو مراد النص، وحديث الأصناف وسيلة له، وما يسأله فقير اليوم هو ما يبعث على سروره من ملابس، أو أصناف من الأكل الاحتفالي، أو ما يساعد على المشاركات الجماعية التي تستلزم دفع أموال بحيث لا ينعزلون بسبب فقرهم، وليس الأكل هو ما يسأله، وعلى هذا الأساس تكون إعادة النظر بها، ولا يقال ما يردده البعض من أن الوسيلة المحددة شرعا لا ينبغي تجاوزها، لأن الوسائل الثابتة هي ما تضافرت النصوص على اعتمادها وأصبحت الغاية فيها تبعا لا التي كانت الغاية هي الأصل والوسيلة المنصوصة تبع لها.