تعرف الأمم الأفكار حسب ما توارثته أو ما استنتجه جيل أو شاهده، أو تبعا لما يطرحه لها إعلامها أو قاهروها -أو إن استطاع مثقفوها - بصورته الحقيقية أو بصورة مزيفة حسب الأهداف التي ينطلق منها كل طرف. ومن تلك الأفكار تعريف الأمم للتخلف.
تكمن الأهمية في تعريف التخلف بما يرتبط به ويصنعه من ممارسات ذهنية وسلوكية يومية ومعاشة، تحرك كل كيانات الأفراد والأمم في زمن أصبح فيه الخلط والتداخل بشكل يومي بين ما هو من (استعمال) لمخرجات التحضر والتمدن وبين ما هو (معاش) من حالات التخلف وزمهرير الزيف، بل وأكثر من ذلك أن يكون هناك منتج مادي ينبغي أن يصنف حالة تقدم بشري وبين منتج عكسه تماما كما قد تراه في بلاد متعددة بشرق آسيا.. تصنع كل شيء تقريبا من صناعات صغيرة ومتوسطة، ولكن التخلف في حقوق البشر أبلغ من تخلفها في اختراع الدواء والطيران المدني والعسكري؛ فلا تستطيع أن تسميها متقدمة وما لديها ليس منتجا حضاريا بل (احتياج صناعي)، فالصناعة هناك كثيرة والتخلف في قيمة الإنسان بنفس الانتشار والكثرة, ذلك عندما يحسب الإنسان في المعادلة فتطيش معها صناعات الاحتياج، ويبقى أن ما في دول كهذه يهون توصيفه ونحت كلماته، وتبقى الصعوبة في عقل الطبقة المتعلمة – وليس المثقفة - هي ما يتراكم في عقل الفرد والأمم في العالم الثالث التي تستعمل منتج الحضارة ـ ولا تستطيع حتى على صناعة الاحتياج ـ فتتوهم استعمال ذلك المنتج حضارة.. أو تظنه مدنية.. فاستعمال منتج التقدم لا يقدم أهله بالضرورة بل قد يسقطهم في ما هو أكثر سلبية، وهو (وهم) التحضر، فيقف العقل عند حد الوهم كتعريف للحضارة، ويبقى يستعمله على هذا الحال، ولا يستطيع توصيفه بـ(أداة) أو (احتياج) من الحضارة وليس (حالة) يمكن أن يكسبها مستعمل الأداة.
جنوب أفريقيا في مرحلة الفصل العنصري البغيض قبل أن يوجد الإنسان الفاعل – حقيقة – في عصر انتصار منديلا كانت النقاشات تنصب على طريقة المناهج التعليمية والأساليب الحديثة لمد سكك الحديد بين المدن وتغيير لغة القبائل هناك إلى الإنجليزية، وهو عند العنصريين كامل التعريف للتقدم.. أما الوعي الاجتماعي للسود هناك فلم يكن متخلفا لأجل أن يساير هذه الحيل أو يتوهمها، ولم ير تحضره فقط في الحصول على منازل تخرجه من مرحلة العشة، فكرامة الإنسان ووجوده الفعلي ودوره بلا أصنام البيض كانت هي تعريف التقدم.. لأن الحكم على الأمم بأداة نوع وحجم قضاياها كما هو الحكم على الفرد، فأنجز المجتمع ـ ببساطته المادية ـ مهمته عندما تمايزت التعريفات، ولم تكن جنوب أفريقيا كالدول التي استقلت عن المستعمر الخارجي في مراحل الخمسينات وما بعدها، حريصة كل الحرص على أداة (الإذاعة) التي تعلن ـ حسب من يسوسها ـ دخولها إلى عالم التقدم كما يعرفه جالب هذا المنتج الصناعي، والكثير منها كان يذيع تخلفه عمليا من خلالها، وكلهم يشددون على الغناء الوطني الخاص ببلدهم، ومنهم من استورد كلمات السلام الوطني واللحن وكل شيء بعدها من الرغيف إلى القرار ثم يحسب أنه تقدم عندما أصبح المجتمع يستعمل وسائل التقنية، فتوهم خروجه من الدهليز المظلم للتخلف.. لأن فهمه للكرامة وضرورتها للحضارة التي يعلنها هو في التمسك بأفكار (آبائية) تنطلق من استعمال الآلة
لهذا الغرض، بل إن التمسك بفكرة (الآبائية) قد يكون قاتلا ومهدرا لقدرات التفكير: (إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون) الزخرف 23.. وتعريفها على أنها حضارة في مثل هذه الحالة سقطة أخرى، وفعلا حصل في التأريخ القريب أن كانت قاتلة بشكل مادي مباشر وسريع. فتمسك المماليك بفكرة الآباء الذين لا بد أن يتبعوهم جعلهم يحاربون العثمانيين بالسيف والرمح، وعصر العثمانيين حينها كان قد وصل الإنسان فيه إلى مرحلة البندقية والمدفعية! ولك أن تتخيل المعركة بينهم وكم استغرقت من زمن قاتل بالجهل! لينتهى عصر المماليك؛ حينما أصر مجتمع بأكمله على أن السير على طريق الأسلاف في استعمال أدوات الحرب هو الإيمان بعينه!
فبمجرد تقديس غير المقدس والهزيمة أمام رأي الآباء وتعريفهم للتخلف بأنه مغايرة أدوات الأجداد وانهيارهم في مرآة تنميط خادعة جعلهم يهزمون بأضحوكة تاريخية، لم يشفع لوجودهم ولبقائهم استجرار عملية الفهم التي تناقصت فتناقضت مع الزمن، ولم يشعر المستجرون بتصاغرها ولا السامعون بسطحيتها.
وقد ينطلق التعريف الواقعي من خلال الدوافع والمحركات للتعريف، كالسمنة والبدانة فيما يخص الجمال، حيث كان الإنسان في مرحلة تاريخية يقيم مهرجانات لاختيار أجمل النساء، ولا بد أن تكون الأجمل هي الأكثر سمنة وبدانة، وفازت فيها إحدى المرات امرأة بالغة البدانة لا تستطيع الحركة، فحملت إلى المهرجان لسمنتها.. وهذا منطلق من كون سلوك التفكير لتعريف الجمال متأثرا جداً بثقافة الجوع وهاجس العوز.. أما منطلق تعريف التدين عند المماليك فهو نابع من شعورهم بالحاجة للسلطة، بل للبقاء، فتبادر لذهنهم محاولة استعمال الناس لذلك بيقين تام أنهم لا يسيرون حقيقة على المنهج الإسلامي في الحق والعدل، فاستبدلوه بوضع الأداة كتعريف للمنهج, مع فقر مدقع في التفكير والثقافة والرؤية من خلال الجوع المضطرب للسلطة ومن خلال شكلانية المظهر.
ولا يزال التاريخ يطرح الدروس كل يوم، فإلغاء الإنسان والوصاية على عقله وحقن الآراء في تفكيره مضحك هو الآخر في عصر الإنترنت، بل هو - بتمعن أكثر - محزن جدا، لأن مثال الإنترنت يختلف عن سلاح المماليك، فسلاح المماليك أداة فقط تدفعها فكرة، ولكن الثاني أداة أنتجتها فكرة لتولد حالات تتعلق بتكوين فكر الإنسان الاجتماعي ومؤثراته ومخرجاته، فما بالكم بأمم قد تعيش بتفكير المماليك ليس في عصر العثمانيين بل في عصر "تويتر"!