عندما يأتي الحديث عن أهمية إعادة تأهيل وإحياء الأماكن الأثرية التي تمثل عمقا ثقافيا نحن في أمس الحاجة إليه لترسيخ الهوية الوطنية، يأتي من يشكك في جدوى الأمر على المستوى الاجتماعي والاقتصادي وإنه "مجرد هدر مال في أطلال لا تسمن ولا تغني من جوع" كما رد أحدهم على مقال سابق كتبته في هذا الإطار. بالطبع لا أحد يشك في إعادة مثل هذا التراث إلى الواجهة واستغلالها ثقافيا واقتصاديا أمر مكلف ماليا، ولكن الأهم هو طريقة التفكير التي تقف حجر عثرة وراء تلك المشاريع، فقد يعطل موظف بسيط في جهة حكومية ما عمل أشهر وربما سنين بسبب تفكيره البيروقراطي العتيق الذي لا يتوافق مع العصر، أو لأنه يريد نصيبا من المشروع بأي طريقة كانت، وعلى أقل تقدير قد يكون سبب التعطيل عدم قناعة شخصية. كل ذلك يأتي لأن مشاريعنا الثقافية على وجه الخصوص تبنى على اجتهادات شخصية وربما قناعات صاحب قرار وليس للاستراتجيات العامة حظ من التطبيق إلا على الورق فقط. ولأننا في المراحل الأخيرة لانطلاق مهرجان سوق "عكاظ" الذي أصبح فعلا وطنيا مهما على الرغم من عمره القليل، فإنه لا أحد يستطيع إنكار أن الهم الثقافي الشخصي الذي يحمله الأمير خالد الفيصل كان وما زال أهم أسباب إعادة إحياء تاريخ وثقافة ذلك المكان العريق في الثقافة العربية والإسلامية ولننظر إلى نص ما قاله أمس ونشر في "الوطن" حيث يقول:

(إن عناية إمارة منطقة مكة المكرمة واهتمامها بسوق عكاظ لا ينطلق من حرصها على إحياء المكان، وإنما إعادة الاعتبار إلى مكانته الفكرية والثقافية والإنسانية والاقتصادية والانطلاق منها إلى بناء مشروع نهضوي حضاري يعنى بمد جسور من الماضي إلى المستقبل، بالعناية بالإبداع والتميز العلمي، ونشر الثقافة والعلم والمعرفة). فالأمير خالد يؤكد هنا على الهدف الحقيقي والنهائي وهو الانطلاق من الماضي العريق إلى بناء مشروع نهضوي حضاري، وهو بالضبط ما تفعله جميع الأمم المتحضرة. فلو أدرك جميع من يتعامل مع ملفات التمويل المالي والتخطيط الثقافي والاستراتجي العام للبلد، ما يرمي إليه أمير منطقة مكة المكرمة لكُنّا شهدنا كل شهر تقريبا فعلا ثقافيا كبيرا مثل "عكاظ" في كل بقعة من بقاع المملكة، ولو كان هناك فكر اقتصادي علمي لما كلفت تلك الفعاليات الدولة ريالا واحدا، لكنها العقول البيرقراطية التي ما زالت تفعل فعلها في كل زاوية.. فمتى نحتفل بتقاعد آخر عقل بيروقراطي معطل؟