شاعر متجدد ومتفرد في الشعر السوداني الحديث، قال عنه الدكتور حسن أبشر الطيب: "حمل لواء الشعر المبدع محافظاً على شعلته المضيئة الخيّرة، حريصاً على تراث القصيدة العربية كرافد لتطور الحركة الشعرية الإيحائية الحديثة، رافضاً القطيعة مع بناء القصيدة وتجديد بنائها في إطار شعر التفعيلة". إنه الشاعر السوداني محمد المكي إبراهيم صاحب المجموعات الشعرية: "أمتي، بعض الرحيق أنا والبرتقالة أنت، يختبئ البستان في الوردة، في خباء العامرية" ومن خلال قراءتي واطلاعي على هذه المجموعات أبصرت في طيات شعره ذلك الاستدعاء الوفير لجوهر الذات، وسيطرة الحس المتجلي ودفقات الامتلاء المشع بالإشراق الخالص، يتجسد ذلك المعنى العفوي والفطري وطراوة التسامي في قصيدته "مدينتك الهدى والنور" التي أطلقها الشاعر في الفضاء الرحب والمناجات الحميمة نظراً لقدسية المكان "المدينة المنورة" حيث يقول: "مدينتك القباب ودمعة التقوى ووجه النور. وتسبيح الملائكي في ذؤابات النخيل وفي الحصى المنثور. مدينتك الحقيقة والسلام على السجوف حمامة وعلى الربى عصفور".
ولم يتوقف مكي عن مزج العناصر الحسية الماثلة أمامه مع العناصر الروحية والنفسية التي تتقاطر في نزعة غنائية عذبة ومشهدية استبطانية مهيبة "مدينتك الحديقة يا رسول الله كل حدائق الدنيا أقل وسامة وحضور. هنالك للهواء أريجه النبوي موصولاً بأنفاس السماء وكأسها الكافور. هنالك للثرى طيب بدمع العاشقين ولؤلؤ منثور. هنالك للضحى حجل بأسوار البقيع وخفة وحضور. هنالك للصلاة رياضها الفيحاء والقرآن فجرياً تضيء به لهىً وصدور. بساعات الإجابة تحفل الدنيا وأنهار الدعاء تمور".
بهذا الفيض الزاخر واليقين الساطع والمعجم الضاج بالمعطى الروحي المتواتر والقيم الجمالية اللا متناهية يواصل المكي بوحه الأثير فيقول: "سلام الله يا أبوابها وبيوتها ونخيلها اللفاء. سلاماً يا مآذنها وفوج حمامها البكاء وياجبل الشهادة والبقيع سلام. على أثل الحجاز على خزاماها تهب قصيدة الصحراء. إلى تلك البساتين المعرجة الجداول والقباب الخضر يهفو خاطر الدنيا وتحدى العيس في الصحراء". ويتنامى الانفعال الوجداني عبر الالتفات الملهوف والاحتشاد النفسي المنسجم مع الأجواء الدلالية وكوامن المشاعر وكثافة الموقف المهيب والطقس الابتهالي:
"مدائح لم تقل لبني الزمان ترددت عبر القرون ليثرب الخضراء قصائد من رهافة وجدها شقت جليد الصخر واجتازت عباب الماء. قوافل ما انقطعن عن السرى صلت عليك وأوجفت عبر القرون إلى قصيدة حبها العصماء".
ويختم مكي لحظته وحالته الإبداعية بقوله: "ببابك تدخل التقوى فتوح الفاتحين وحكمة الحكماء وفي نعماء عدلك ترتع الدنيا وميزان الحساب يقام. حفاة الرأس والأقدام ندخل في نبوتك الرحيبة".