حرب التخمة على المجاعة وليس العكس، حرب الأغنياء على الأغنياء لتحديد نوع التخمة ليس إلا! فلم تكن الضجة العالمية هذه الأيام حول استصدار قوانين تمنع بيع كبد الإوز (الفواجرا) إلا لتقنين نوع الغذاء باهظ الثمن، ولأن ذلك ناتج عن دفع الطعام بالقوة إلى جوف البط مما يجعل البط "متضايق شوية" وهو ما اعتبره الحقوقيون نوعا من التعذيب. فهذا هو الأميركي جون بيرتون، العضو السابق في البرلمان يقف وراء القانون، وهو لم يتوان عن تشبيه تسمين الإوز بعمليات التعذيب بتغطيس الرأس في الماء، أو بختان الإناث. ويعمد منتجو هذا الصنف من الطعام إلى إجبار الطيور على تناول حبوب فوق طاقتها، بواسطة مضخة تدسّ في مناقيرها، وكان بيرتون قد صرّح لصحيفة أميركية، أول من أمس، بأنه يتمنى أن يرى منتجي كبد الإوز في فرنسا وهم يخضعون لعملية تسمين قسرية لكي يشعروا بما يشعر به الحيوان.
وعملية تلقيم البط أو ما يطلق عليه لدى المصريين (تزغيط البط) هي عادة فرعونية في الأساس إلا أنها انتقلت إلى فرسا حتى أصبح طبق كبد الإوز طبقا شعبيا فرنسيا باهظ الثمن، ولكن اللجان الحقوقية العالمية بقوانينها المستحدثة ترى فيه قسوة شديدة على الحيوان..
هذه الأحداث التي وصلت إلى أن الولاية الأميركية تمنع الطبق الفرنسي وباريس ترد بمقاطعة منتجاتها يردني إلى سالفة محمد العوني وهو شاعر شعبي وداهية من دهاة العرب من أهالي القصيم ويقيم في الكويت، حيث إن العربي هو مقيم حدود الرأفة بالحيوان، ودافع عنها بماله وفكره ودونها في نوادر من الشيم المتوارثة. ومحمد العوني سبق جون بيرتون في دفاعه عن الحيوان والرأفة به ولكنه لم يقف في منابر برلمانية ويصرح في الصحف العالمية بل كتب فعله في صمت عبر سلوك عربي توارثته الأجيال، وهو أكثر خطرا في تسلل الميراث من المنابر الدولية، فثقافة المنابر أقل تأثيرا من فعل يؤتى به أمام العامة ليصبح قيما في الوجدان الجمعي.
"كان محمد العوني منسجما في ردهة داره في منزله بالكويت ينظم بعض قصائده ويستجلي شعره فوجد كبشا يقتحم بيته، كاد يخرجه من البيت، إلا أنه سمع قرعا شديد على بابه مما أسفر عن أنه صاحب الكبش ويريد تسليمه كبشه"، ويقول فهد المبارك الكاتب والمؤرخ: "لم يكن لديه أدنى شك بأن المنادي صاحب الكبش، فراح وقبض عليه ليسلمه إلى صاحبه، ولكنه عندما وصل إلى الباب وجد صاحب الكبش حاملا مديته، فسأله، فأجابه أنه يريد أن يذبح الكبش لأنه جزار يبيع اللحوم، فرد عليه الأول بقوله:
"كنت على أتم استعداد أن أسلمك كبشك، ظانا أنك رجل من رعاة الغنم وأن الغاية من رغبتك في استلامه هي العناية والرعاية به، أما ما دمت جزارا وتقصد أن تذبحه فإنني لن أسلمه لك، لأنني أعتبر دخوله إلى منزلي في حالة كهذه معناه أنه لائذ بجواري، وللجوار أو الاستجارة شأنها في التقاليد العربية. فحرمة الجوار ليست مقصورة على الإنسان، لما كانت الغاية التي تدفع المستجير إلى الاستجارة هي عجزه عن الدفاع عن نفسه، ونجدته بقوي يجيره ويحميه فإن مثل هذا الحيوان أحق بالحماية لأنه أعجز من أن يدافع عن نفسه".
ثم دفع محمد العوني الثمن للجزار واقتنى الكبش واعتنى به، ويقول المبارك: "إن العوني حينما اضطر للسفر عهد بالكبش لبدوي أمين بعد أن أخذ عليه عهدا بألا يمسه بسوء إلى أن توافيه منيته.
تلك هي عادات وشيم العرب المستقاة من العرف وفروسية الرجال تحميه، أما بريتون وهو عضو برلمان أميركي سابق فيعلم مدى حقوق الإنسان والحيوان، ولذلك يصرح بشدة منددا بمغتصبي حقوق الحيوان، بل ويرجو أن يرغم الإنسان على الأكل، ألا يعلم السيد تيري أن هناك أطفالا في نصف الكرة الجنوبي وفي مشارق الأرض ومغاربها "يا سيدي ليتهم يزغطون الأطفال"، فهذا أهون عليهم من الجوع. ألا يعلم سيد تيري وهو عضو في البرلمان الأميركي ما يتعرض له أطفال غزة وأطفال فلسطين من قتل وقهر وسلب للبراءة. ألا يعلم سيد تيري أن حقوق الإنسان تأتي في الدرجة الأولى لأن الله سبحانه وتعالى قد خلق الإنسان وسخر له الدواب وكل ما في الأرض وما عليها، ولكن يبدو أن السيد تيري يرى أن الإنسان في العالم الثالث لم يصنف بعد، فهو شيء يحتاج إلى تصنيف من وجهة نظره ومن وجهة نظر كل المنظرين الحقوقيين في هذا العالم، إنهم أبدعوا مؤسسات ليقفوا وراءها لتحقيق مكاسب على أي مستوى ولكن حقوق الإنسان تظل بلا إنسانية.. أتذكر ذلك الحوار من مسرحية المسخ لكاتبة هذه السطور بين جابر وهو عامل في حديقة الحيوان، وحامل العصا، المحقق:
"حامل العصا: إنت يا شيء
جابر: أيوه يا سعادة البيه، لي سؤال
حامل العصا: اتكلم
جابر: أول حاجة ليه أنا شيء؟ ثاني حاجة تصنيفي؟
حامل العصا: أول حاجة ليه انت شيء.. هو ده تصنيفك؟
جابر: والشيء ده بيقبض كام؟
حامل العصا: الإنسان هو اللي بيقبض.. لكن الشيء ما بيقبضش. مين أكل القرد؟
جابر: ما عرفش..
حامل العصا: لما تعرف يا شيء.. هتفضل هنا برتبة شيء.. ولما تعرف هانظر في أمرك".. أي تتحول من شيء إلى حيوان وهي رتبة أرقى شوية.. وظل جابر برتبة شيء حتى استئصل رأسه ولسانه وأذناه وأصبح مسخا يباع في مزاد دولي تتشكل منه مليون نسخة حسب نوع ولون العلم المطلوب، هذه هي حقوق الإنسان الدولية، أما حقوق الحيوان فدعها أيها الـ"تيري" لمحمد العوني وأحفاده وبلا سطو على كل شيء حتى كبش العوني.
ثم لي سؤال واحد وهو: من الذي أخبرهم أن الوز متضايق؟