لو كتب المؤرخون غداً تاريخ خالد الفيصل وإنجازاته الثقافية والإدارية، فأول ما سيذكرونه ـ في ظني إن كانوا منصفين ـ أنه كان كالنحلة الباحثة دوماً عن رحيق. وأنه رغم بلوغه سن السبعين الآن، إلا أنه ما زال يتحرك، وينشط، ويؤدي، كما حركة ونشاط وأداء الشباب. بل ربما كان أكثر نشاطاً وسرعة في الحركة الإدارية والثقافية من هؤلاء الشباب. أما فلسفة الإدارة لديه، فتتلخص ـ في ظني ـ في اللاءات التالية، التي أرى أن من واجب علماء الإدارة، والاجتماع في العالم العربي، النظر فيها، ودراستها بالتفصيل والمسح الميداني، واعتمادها كفصل من فصول علم الإدارة العربية، على المستويين: القطاع الحكومي، والقطاع الخاص.

لا تكديس للملفات

إن كل من زار الأمير خالد في مكتبه، يلاحظ أنه لا يوجد على مكتبه أمامه غير ملف واحد لمعاملة واحدة. وهي ميزة الإدارة الحديثة والناجحة. فقد زرت اليابان في السبعينات عدة مرات، واجتمعت برؤساء مجالس إدارة بعض شركاتها الكبرى. وكنت أتعجب من خلو مكتب رئيس مجلس الإدارة من أهرام الملفات، التي نشاهدها في الأفلام المصرية لدى موظفي ومسؤولي الحكومة. وتساءلت يومها: ماذا يفعل هؤلاء الرؤساء، وأين هي ملفات عملهم؟ ولم أدرك يومها، أن الإدارة الحديثة، تعني البتَّ في القضايا أولاً بأول، ويوماً بيوم، دون إرجاء عمل اليوم إلى الغد. فلا تكديس للملفات والقضايا.

لا تنقلات ولا "تنحيات"

من الملاحظ أن المديرين الجدد في العالم العربي والغربي، في الخدمة الحكومية وفي القطاع الخاص، يبدؤون مهامهم بسلسلة من التنقلات و"التنحيات" بين موظفيهم لكي يأتوا بـ"أزلامهم" وينحُّوا الأجنحة المعادية لهم. ولكن الأمير خالد لم يأخذ بهذا الأسلوب الإقصائي في الإدارة. ويقول الراحل عبدالله نور (1940-2006) الذي كان صديقاً ملازماً للأمير خالد في مقاله (جريدة "الجزيرة"، 10/ 9/ 2002) إن الأمير حين بدأ في تنظيم أعمال "رعاية الشباب" في الرياض، لم يزعج زملاءه من الموظفين العاديين أو من هيئة الإداريين بالتنقلات أو "التنحيات"، أو أنه أقحم عليهم من غيرهم من الإدارات الأخرى، بل صادقهم، وأضفى عليهم روحاً من الطمأنينة، والثقة الكاملة، وأعطاهم كل ما عنده من المعارف الإدارية الممزوجة بالتواضع، والصبر، والهدوء، والتشجيع، والتدرج اليسير، بلا تهاون، وبلا محاباة، أو مجاملة.

لا إنتاج مع الكراهية

من صفات القيادي الناجح في الإدارة، الحرص على العمل في جو من التآلف والتعاطف بين العاملين. وأن يكون القيادي محاطاً بالمشاعر الطيبة، لكي يستطيع أن يأخذ من العاملين معه أقصى ما يمكن. فمحبة العاملين للقيادي هي السر في نجاحه، وتقدمه. وهو كالقائد العسكري في ميدان القتال. إن أحبه جنوده، وأخلصوا له، كان النصر في كثير من الأحيان حليفه. وكان خالد الفيصل على هذا النحو، كما يقول لنا معظم من عمل معه، وتحت قيادته.

لا موظف فاشلاً

ليس لدى خالد الفيصل موظف فاشل، ولا رجاء منه. ولكن في قاموسه الإداري موظف متدرب جيدا وموظف ينقصه مزيد من التدريب والتعلُّم. وهو يرى، أن فن الإدارة، يتركز على مدى قدرة القيادي الإداري في اكتشاف نقاط الضعف بين العاملين معه، وحاجتهم إلى التدريب النوعي الكافي، والتعليم. وكانت إدارته في إمارة عسير ـ كما هي في إمارة مكة المكرمة ـ توصف بأنها إدارة تدريب وإعداد.

لا نبذ للمتنافرين والمختلفين

يوصف الأمير خالد بأنه يمتاز بمقدرة غير عادية على استيعاب المتنافرين والمختلفين في إدارته. وأنه قيادي لديه القدرة أيضاً على تحمل كافة أنواع الضغوط الداخلية والخارجية في إدارته، والخروج من أكثر الأبواب سلامة وأمناً. وهذا ينساق ـ بشكل واضح ـ على فعاليات "مؤسسة الفكر العربي" كما ينساق على أسلوبه الإداري في العمل الحكومي. وقد شاهدناه في عدة فعاليات ومؤتمرات "مؤسسة الفكر العربي"، كيف يتصرف بهدوء، وحكمة، وروية، تجاه الأفكار، والاتجاهات، والتيارات المتضاربة والمتغايرة بين المفكرين، والمثقفين العرب.

لا حقيقة كرؤية العين

ومن مميزات فلسفته الإدارية، أن يرى الحقيقة بعينه لا أن يقرأها فقط. فالحقيقة لديه هي ما يراه على أرض الواقع، دون الاعتماد على التقارير الكتابية فقط، أو على ما يرويه الرواة من المنصفين، وغير المنصفين. لذا نراه دائم الترحال والحركة الدؤوبة كالنحلة. متنقلاً بين أجزاء وأطراف إمارته، يتفقدها كما تتفقد الأم فراش أطفالها كل ليلة. وربما كان إحساسه بالزمن ـ كفنان ـ إحساس متميز. فهو في حركته اليومية، يسابق الساعة منذ شبابه، وفي هذا يقول في قصيدته (أسابق الساعة):

اسابق الساعـه وتسبقني الساعــه

تقضي وانـا توّني بأوّل ثوانيها

ابشتري وقت وين اسواق بيّاعه

ياالّلي تبيع الدقايق.. حِدْ .. واشريها

كذلك، كان حاله طيلة 35 سنة قضاها في إمارة عسير، يزور ويتفقد مدنها، وقراها، ويعرف أهلها واحداً واحداً، ويتعرف على مطالبهم، ويقضي حوائجهم. وهذا هو حاله اليوم في إمارة مكة المكرمة. ففي معظم الأحيان نراه بين جدة ومكة المكرمة لجعلها أولى مدن العالم كما يهدف. ومن جدة إلى الرياض لمتابعة نشاطات "مؤسسة الملك فيصل الخيرية". ومن الرياض إلى الدمام لتفقد "جامعة الملك فيصل". ومن جدة إلى الطائف لتفعيل "سوق عكاظ" وجعله "دافوس الشرق". ومن جدة إلى الليث. ومن الليث إلى رابغ. ومن رابغ إلى ثول. ومن ثول إلى بيروت لحضور فعاليات "مؤسسة الفكر العربي". ومن بيروت إلى القاهرة لحضور الاجتماع التمهيدي للقمة الثقافية. وقبل ذلك، كان قد طاف في معظم العواصم العربية للتعريف بأهداف "مؤسسة الفكر العربي". وقبل أشهر كان في باريس، وفي مجلس الشيوخ الفرنسي، ينادي بتحالف القيم بين الإسلام وبين مبادئ الثورة الفرنسية.

فمن أين استمد خالد الفيصل كل هذا النشاط ـ و"عيني عليه باردة"، كما يقولون، واللهم لا حسد، وإنما فخر، واعتزاز، وتقدير ـ وكل هذه الحركة نحو تجديد الإبداع، والمساهمة في بناء طريق الصلاح والإصلاح، التي تتبناها المملكة الآن؟