يقسّم الفيلسوف أمارتيا سن تراث عصر التنوير حيال فكرة العدالة إلى فريقين. الأول يرتكز على دور المؤسسات من خلال العقد الاجتماعي، بمعنى أنه الفريق الذي يعتقد أن تحقيق العدالة في المجتمع يتم من خلال عقد اجتماعي عادل ومؤسسات اجتماعية تطبّق وترعى هذه العدالة. لدى هذا الفريق تصوّر مثالي عن العدالة وتعمل المؤسسات لتحقيقه. يمثل هذا الفريق من الفلاسفة هوبز وروسو وكانت ومن المعاصرين جون رولز. الفريق الثاني في المقابل يطرح مفهوما مقارنا للعدالة أكثر من طرح مفهوم مثالي. بمعنى أنه الفكر الذي يبحث عن مجتمع "أكثر" عدالة و"أقل" ظلما. الوعي الاجتماعي هو عماد هذا الفكر أكثر من المؤسسات، ولذا يحضر الفرد مباشرة كمحقق وضامن للعدالة. يمثل هذا الفريق آدم سميث، بانثام، ماركس، جون ستيورات مل، ومن المعاصرين أمارتيا سن نفسه. هذا التقسيم المنهجي لا يعني، باعتراف سن نفسه، أن الوعي الاجتماعي لا قيمة له عند الفريق الأول، أو أن الفريق الثاني لم يعر المؤسسات أي اهتمام. هذا التصور سيضر بفهم القضية كثيرا. المقصود هنا هو ترتيب في الأولوية أو الرهان.

لكن بشكل عام القضية محل خلاف طويل. سؤال: كيف نحقق العدالة اجتماعيا؟ أشغل الكثير من العقول على مر التاريخ. من جهة كل مجتمع يحتاج لمؤسسات تحقق العدالة. هذه المؤسسات تمتلك الشرعية والتنظيم والقوّة لتحقيق العقد الاجتماعي العادل. هذه المؤسسات هي القناة الطبيعية التي يمر من خلالها صوت الجماعة وتعبيرها عن معنى العدالة. بحسب علماء الأنثروبولوجيا فإن المجتمعات البشرية لم تخل من المؤسسات على مرّ العصور. ولكن في المقابل المؤسسة ليست إلا هيكلا شكليا وقوانين مكتوبة على الورق لا تتحرك بذاتها لتتحول إلى واقع. بمعنى أننا لو أخذنا على سبيل المثال الدستور في دولة مثل فرنسا ودولة مثل مالي أو النيجر لوجدنا تشابها كبيرا في صياغة الدستور وهيكلة الدولة والمؤسسات الاجتماعية. في المقابل سنجد تفاوتا كبيرا في طبيعة عمل هذه المؤسسات وأثرها على أرض الواقع. من السهل جدا تحويل المؤسسات إلى مجرد غطاء للفساد والاستبداد. هنا يأتي دور الوعي الشعبي بمفهوم العدالة والذي يتم ضخّه يوميا في المؤسسات الاجتماعية لتحيله إلى واقع. هنا نعود إلى وجهة نظر الفريق الثاني الذي يرى أن العدالة تتحقق يوميا وأن وجود مؤسسات عادلة لا يعفي الأفراد من العمل يوميا للدفع بهذه المؤسسات إلى المزيد من العدالة والقليل من التمييز والظلم. الوعي الاجتماعي في الأخير هو روح العدالة وضمانتها الحقيقية، ولكن هذه الروح لا طريق لها إلا المؤسسات التي يمكن لها وحدها أن تتجاوز الاختلاف في الشارع وتعبّر عما يحقق أعلى مستوى ممكن من الاتفاق، بمعنى أن المؤسسة هنا هي خلقة متقدمة في مسيرة فكرة العدالة لكي تتحول إلى واقع. فمن رؤوس الناس تنطلق هذه الفكرة ليتم بثّها في المجال العام عن طريق التواصل بشتى أنواعه. المجال العام هو ساحة الحوار التي تلتقي فيها شتى الأفكار حول العدالة ليتم امتحان الجميع. عدد محدود من هذه الأفكار يحظى بقناعة وقبول أكبر عند الناس ليتم تحويله إلى نظام عن طريق المؤسسات. نلاحظ هنا أن حرية التفكير والتعبير والنقاش في المجال العام هي شروط أن تكون القوانين هي قوانين الناس التي فكّروا فيها بأنفسهم وأنتجوها والتي من المتوقع لاحقا أن يتحمّس لها الناس ويدافعوا عنها.

أعتقد أن السؤال حول المؤسسات والوعي الاجتماعي وعلاقتها بتحقق مفهوم العدالة على أرض الواقع هو أحد الأسئلة الكبرى التي تواجه الدول العربية التي ثارت باحثة عن الديموقراطية. أكثر المتخوّفين والمتشائمين يرون أنه حتى ولو تمت صياغة دساتير وأنظمة عادلة فإنها لن تضمن التغيير في ظل غياب ضمانة وجود وعي اجتماعي حقيقي يمكن أن يحوّلها إلى واقع. هذه المجتمعات التي رزحت لسنين طويلة تحت الاستبداد لن تتحول بمجرد إعادة صياغة الدستور أو تغيير عدد محدود من المناصب إلى مجتمع عادل. يذكرنا المتخوفون بأن الثورات لا تعبّر في النهاية إلا عن نسبة محدودة من الناشطين، وأن الغالبية من الناس التي يعوّل عليها في الممارسة اليومية للعدالة تتفرج ربما بسلبية على الأحداث. هذه التخوف مشروع ومعقول ولكنه في النهاية يشير إلى احتمال لا إلى حتمية.

لكن القيمة الرئيسية في هذا النقد برأيي أنها تحيل النظر إلى نقطة معينة ربما تختفي في كثير من التحليلات، وهي أهمية استمرار الثورة، لا باعتبارها ثورة لتغيير النظام فقط، بل بوصفها ثورة اجتماعية وثقافية. بمعنى استمرار الثورة في المجال العام في مساحات المجتمع المدني الذي هو في نهاية الطريق الضمانة والرقابة على عمل المؤسسات. الكثير من الثوار في تونس ومصر وليبيا واليمن يشعرون بأن الأمور على مستوى التغيير في المؤسسات لم تتم كما ينبغي وأن التيارات القديمة هي من تتولى العملية في نهاية المطاف.

ولكن لو عدنا إلى الضمانة الحقيقية لتحقيق مجتمع أكثر عدالة وأقل ظلما لوجدناها تكمن في مساحات أكثر أهمية وأطول بقاء. إنها تكمن في الوعي الاجتماعي والثقافة السائدة والتي لم تعد الدولة تشكّلها كما تريد كما كانت في السابق. في هذه المساحة تحديدا يمكن أن تتشكل الديموقراطية وعين الرقابة الشعبية التي ستدفع يوميا وبشكل مستمر ولفترات طويلة من أجل مجتمع أكثر عدالة. لا ننسى أن الأفراد حتى في المجتمعات العريقة في الديموقراطية يشعرون بأن مجتمع العدالة يقع في الأمام، في المستقبل، ينتظرهم ليحققوه وليدفعوا باتجاهه باستمرار ليصبح الهدف الواقعي ربما ليس حياة عادلة، فهذا مفهوم مثالي، ولكن حياة أكثر عدلا وأقل ظلما يسعى الأفراد للدفع باتجاهها مع إشراقة صباح كل يوم جديد.