الشباب أشبه بسلاح ذي حدين. هذه الحقيقة تم إدراكها مبكراً في العالم الغربي. تتميز شخصية الشاب عن الكهل بالنشاط والإقدام والاندفاع من جهة، والتمرد على السائد من جهة أخرى. فإذا ما توجه الشباب إلى الصواب أبدعوا وإذا ما توجهوا إلى الخطأ دمروا. وهناك أمر مهم في شخصية الشاب غالباً ما يتم إغفاله، وهو أهمية تحقيقه لذاته، وبالتالي أهمية اختياره لهذه الطريقة، إذ يلمس المواطن العربي تغيراتٍ كبرى في البنى الأساسية للمجتمع، وأولها الأسرة والتربية، حيث لم تعد الأسرة هي ذاتها تلك الممتدة والمتماسكة والكادحة، الخاضعة للرأي الأوحد للأب أو الأخ الأكبر؛ فقد أجبرت الحياة الحديثة كل أفراد الأسرة على ممارسة حياة مختلفة هي بالتأكيد ليست على غرار نمط حياة أسلافهم، فإنسان القرن الواحد والعشرين يعيش حالة تاريخية خاصة تولدت عبرها أكبر حالة اجتماعية مشتركة في التاريخ، وتتمثل في تحول العالم إلى العولمة بعد أن يصبح للعالم وجهة واحدة ينطبق عليها فعلاً مفهوم القرية الكونية.
ويمكن في صدد هذا المقال الإشارة للرؤية الدقيقة للعولمة التي طرحها سابقاً الدكتور مصطفى حجازي في كتابه (الشباب الخليجي والمستقبل)، حيث يرى أن للعولمة بعدين رئيسيين: الأول حتمي لا رجعة فيه، والثاني احتمالي خاضع للحوار والصراع والقوة والإرادة. ويتمثل البعد الحتمي بتقنيات الإعلام والاتصال وقواعد المعلومات، بينما يتمثل البعد الاحتمالي بالسياسة والقوة العسكرية وأسواق المال ومحتويات الإعلام وتوجهاته الثقافية. وهنا يؤكد حجازي أن الشاب اليوم يحتاج إلى التأهيل للانخراط كفرد سوي منتج، يتجاوز مجرد توظيفه عبر مكاتب التوظيف.
توحي طبيعة تكوين الأسرة الحديثة أنها ليست الحاضن الوحيد لطفل سيكبر وينطلق إلى عالم جديد ومختلف وربما غير عابئ بما سيحدث بعد لحظة الانطلاق. فالثورة الاتصالية الحديثة ووسائطها المتعددة تضغط بقوة نحو تغيير طريقة التفكير، وتعطي فرصة أكبر للثقافة العالمية المشتركة أن تصنع متوالية من المقارنات والتساؤلات، تظل معتملة في الذهن إلى أن تتسع بالتجربة فيكتشف الفرد أنه لن يستطيع العيش معزولاً عن هذا العالم.
لدى الشباب في أرجاء العالم العربي قضاياهم، وأحلامهم، وطموحاتهم المشروعة، وهم ليسوا جزءاً منزوعاً من جسد المجتمع، بل هم جزء رئيس في تكوينه، إلا أن تجربة الشعور بالاغتراب أمر حتمي في المجتمعات البائسة في العالم الثالث. وليس بوسع هذا العالم تهميش الحالات الشبابية مهما يكن الأمر.
في الدول العربية، رأينا الحالة ذاتها وإن بشكل مختلف من خلال أحداث الربيع العربي. ولا شك أن عقودا من التهميش كانت عنواناً للحراك الشبابي العربي ذي المستوى الأفقي الذي تجاوز كل التوقعات. وقبل ذلك أدهش الشباب الأوروبي- في ستينات القرن الماضي- العالم بقدرته على التغيير عبر أعمال بسيطة تتمثل في حمل الآلات الموسيقية والغناء بملابس ممزقة في الشوارع.
ينحو العالم حالياً إلى زيادة معدلات المتوسط العمري، ويمثل الشباب الشريحة الأكبر والأهم؛ مما يملي على المؤسسات المجتمعية مسؤولية تاريخية تتمثل في احتواء الشباب بمهارة فائقة داخل مؤسسات المجتمع التي يعد الوصول إليها أرقى حالات الانخراط الشبابي في التنمية، إذ تعمل هذه المؤسسات على تقليل حدة هذا الشعور الشبابي بالانفصال الاجتماعي؛ بالضبط كما هي مهارة قائد الطائرة في تخفيف حدة ارتطامها بالأرض عند الهبوط.
لا يمكن لأي خطط تنموية أن تكون مستدامة وشاملة وناجحة في آن واحد، دون وجود فرص حقيقية أمام الإنسان لكي يعيش حياة أفضل، وفق مقياس للأفضلية يحدده هو، ليس على المستوى الاقتصادي فحسب، بل على المستويات الإنسانية العليا المتمثلة بالحق والعدل والمساواة وتكافؤ الفرص، فقد يحظى الإنسان بفرصة جيدة للتعليم لكنه قد لا يجد بيئة مناسبة لممارسة هوايته المفضلة، وهنا ينشأ نوع من الاغتراب والانفصال بين الواقع والواقع المأمول، وهنا تجدر الإشارة إلى أن انخراط الشباب في التنمية انخراطا حقيقياً يبدأ من قدرته على خدمة وطنه ومجتمعه متطوعاً، وبلا مقابل مادي، فالفرد يسعى لتحقيق الذات على المستويين الفردي والاجتماعي، ولن تتحقق هذه الذات إلا بوجود خيارات مناسبة تصقل مهارة اتخاذ وصناعة القرار، عبر فرص لتنوع خلاق من النشاطات الاجتماعية والثقافية والفنية ذات المعايير العالمية التي تؤهل لخدمة الفرد لمؤسساته الوطنية والاجتماعية، سعياً للإنجاز الحضاري في ظل منافسة عالمية حادة.