يقول الطالب الياباني "أوساهير" وهو يحكي قصته عن كيفية نقله للتقنية الغربية والتي استطاع من خلالها صناعة محرك ياباني خالص، حين وقف أمام المحرك الألماني وهو ينظر إليه كأنه ينظر إلى تاج مرصع بالجواهر.. يقول: "هذا هو سر قوة أوروبا، لو استطعت أن أصنع محركاً كهذا لغيرت تاريخ اليابان"، وقد كانت عبارات الطالب الياباني مليئة على قصرها بطعم "التحدي الحضاري". إنه يتحدث عن أمة اليابان التي كانت تطمح طموحاً حضارياً غير متناه. وكان من ورائه إمبراطور اليابان الذي قال حين أدار أمامه المحرك بعد عناء تسع سنوات ليتمكن من صناعة محرك ياباني تام: "هذه أعذب موسيقى سمعتها في حياتي، صوت محركات يابانية خالصة، هكذا ملكنا (الموديل) وهو سر قوة الغرب، نقلناه إلى اليابان، نقلنا قوة أوروبا إلى اليابان، ونقلنا اليابان إلى الغرب".. بعد أن قدم للطالب كل ما يمكن حتى يحقق له هذا الحلم الجميل.
إن للتحدي الحضاري طعما خاصا.. إنه قوة دافعة إلى السباق، يجعل المرء ينظر إلى موقعه في تاريخ البشرية تأثراً وتأثيراً، وهو كذلك ينظر إلى القمة في القيادة، فيسير إلى تحقيق هدفه بحشد كل طاقاته حتى يحقق الأمل المنشود، ويجير كل إمكاناته وطاقاته وشبابه ومناهجه وعلمه وإعلامه ورسالته إلى تحقيق السمو الحضاري من خلال خلق هذه الحالة من "التحدي" الفاعل الذي يعتبر كالوقود لا تتحرك الأمم إلا به.
ماذا عسانا أن نقول ونحن أمة "اقرأ" ؟ وكيف يمكن لنا أن نتلمس موقعنا في سياق "التحدي" بين الحضارات لننتقل من حالة التخلف والذيلية لنكون أمة ناهضة بكل ما تحمل من معنى، وخاصة أننا نملك كل المقومات الدافعة.. عقولا لم تخالطها الخرافة، وقرآنا يدعو إلى العلم والنظر في الآفاق والكون والإنسان، وتاريخا مشرقا في خلق حالة حضارية عظيمة، وعددا بشريا قابلا للتوظيف في هذا السياق، وقيادة داعمة للتطور والنهوض؟.. إنه لم يبق إلا أن نغرس في جيلنا كيف يكون "التحدي"، ونخلق حالة من الحرية التي تحترم العقل والإنسان والإبداع، وتدفع إليه دفعاً لنجعل من الجيل متلمساً لطريق النهضة والحضارة والرقي.
لقد خرجت اليابان من الحرب العالمية الثانية منهكة القوى، مدمرة البنيان.. ألقت عليها أميركا قنبلة ذرية قتلت منها مئات الآلاف، وخلفت كوارث بشرية وبيئية ضخمة، ولم تكن تلك الحادثة العظيمة والمؤلمة مقعدة لهم عن تلمس الطريق من جديد، ولا مقنعة لهم بأنه ليس بالإمكان أحسن مما كان، وإنما كانت دافعاً للشعور العام بأهمية النهوض من جديد، فكان "التحدي الحضاري" هو (الرؤية) والرسالة والأهداف التي تدور في خلد الرجل الياباني وهو يعمل ويخترع ويبتكر، وهو يجد في عمله وينضبط فيه، حتى استطاعت في سنوات قليلة أن تكون من الدول الصناعية الكبرى في العالم، بل وتنافس على الريادة في مجال الاقتصاد والتقنية العالمية، حتى إن المجتمع الأميركي يتسابق إلى شراء السلعة اليابانية لجودتها ومتانتها.
إن إدراك موقعنا في السياق الحضاري هو الذي يشحذ الهمم لتبدع والنفوس لترتقي، وهو الذي ينقل حالة "الانبتات" الحضاري الذي يعاني منه أبناؤنا ـ وكأنهم خرجوا إلى الوجود فجأة بلا تاريخ ولا حاضر ولا مستقبل ـ إلى حالة التحدي الذي يخلق السباق والإبداع، فيهتمون بصناعة ذواتهم وهم يدركون دورهم في حركة التاريخ وسياقه، وهذا بلا شك هو الذي يخلق الإبداع والاختراع والتفكير الجاد في حل كافة المشكلات حتى ينهضوا من الكبوة، ويصيروا في الموقع اللائق بهم في الحضارات الإنسانية.
إن المقياس في سباق "التحدي الحضاري" العالمي اليوم هو (المادة وملحقاتها)، والتي "مكننت" الإنسان وجعلت منه آلة صماء عمياء تخدم المادة ولا تخدمها المادة، بينما رؤيتنا لـ(الحضارة) أبعد من مستوى المادة والتقدم فيها.. إنها قائمة على "الإيمان" الذي يصنع الإنسان المؤمن، المتخلق بأخلاق النبوة، الباني للحضارة على أساس العدل والخير والجمال، المبشر بآثار النبوة وجمال الحياة ورونقها، والتي تجعل "المادة" في موقعها الطبيعي، فكما ورد عن المسيح عليه السلام: "ليس بالخبز يحيا الإنسان"، وقبل ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه ابن عساكر من حديث أنس: "ليس بخيركم من ترك دنياه لآخرته، ولا آخرته لدنياه حتى يصيب منهما جميعاً"، في حالة توازن بين الروح والمادة والجسد، لتنتج الحضارة الإنسان، لا آلة صماء تسير على غير هدى، فيحدث في الأرض الفساد، ويأكل القوي الضعيف، ويبغي الناس على بعض حتى يظهر الفساد في البر والبحر، فتكون المادة مصدر قوة للاستبداد على الخلق، ونهب خيراتهم واستذلالهم في أوطانهم.
إن التحدي الحضاري ليس مجرد شعور يضمر مع الأحداث والضربات، بل هو رؤية وتخطيط طويل يحتاج إلى حشد إعلامي ونفسي ومناهجي حتى تكتمل صورته، بإذن الله، نهضة وتقدماً في جميع المجالات..
إن الحديث حول "التحدي الحضاري" طويل، وذيوله كثيرة، وهو جزء من سؤال التقدم والتخلف، ويحتاج إلى بسط طويل لعله يكون في مقالات قادمة، بإذن الله.