أولى وأدهى طوام مثالب التمييز الاجتماعي في الحياة الفكرية ليس إلا أن ينطلق المؤلف من رصيد ظني ومن معلومات خاطئة ومغلوطة ثم يسيء بقصد أو بغير قصد إلى الشرائح الاجتماعية التي يظن بحسن نية أنه يتصدى لتأليف مرحلة من مراحل سيرها الاجتماعي. والمناسبة، أنني أكملت للتو قراءة كتاب (المسيرة لداعية جنوب الجزيرة) عن الإصلاحي المجدد فضيلة الشيخ الكبير الراحل عبدالله بن محمد القرعاوي، رحمه الله، لمؤلفه بندر بن فهد الأيداء، وبه من التوصيف الاجتماعي ما يبعث على الحزن الشديد لسبب جوهري: لأن المؤلف لم يسئ فحسب إلى البيئة الاجتماعية التي كان فيها جهاد الشيخ القرعاوي الطويل في ميدان الدعوة، بل من حيث ظن أنه قد أحسن وهو يشوه هذه المسيرة.

وبدءاً، ولمن لا يعرف، فإن فضيلة الشيخ الراحل، رحمه الله، كان من القلائل الذين نذروا أنفسهم وحياتهم، بل وحتى أموالهم في التصدي الطوعي احتساباً في سبيل الدعوة. هو أحد الرواد في هذا المجال الحيوي، وقد أتى إلى جنوب المملكة متخذاً من منطقة جازان منارة انتشار لمئات المدارس الدينية في منتصف القرن الهجري الماضي، وذاع صيته وعم خيره إلى الآلاف الذين انتفعوا بعمله وعلمه، ولا ينكر هذا إلا جاحد متكبر على حقيقة واضحة. وأنا هنا لا أناقش مطلقاً أثر فضيلة الشيخ عبدالله القرعاوي ولا سيرة حياته الدعوية الخالصة بقدر ما أناقش هفوات المؤلف الذي حاول تأطير قصة الشيخ القرعاوي مع الناس ومع المكان، مؤملاً أن ننطلق في النقاش مع الكتاب والمؤلف إلى الموضوعية التي تبرهن على نقص حاد في فهم المجتمع الذي كتب عنه، وهو ذات المجتمع الذي نذر له الشيخ القرعاوي، يرحمه الله، آخر ثلاثة عقود من حياته.

أولاً: يؤسفني جداً أنني، وأثناء قراءة هذا المؤلف، توقفت عن تكرار كلمة (الشرك) في المرة الخمسين، عداً، وأنا بعد لم أصل حتى نهاية الكتاب. هذه المفردة المستفزة لا تعكس في المطلق طبيعة المجتمع الذي نذر له القرعاوي ثلاثة عقود من جهاده الدعوي، بقدر ما تعكس للأسف الشديد، بنية انطباعية لكاتب مؤلف بدا أنه يرمي بهذه المفردة الخطيرة على عواهنها بكل ما فيها من قذف خاطئ لمئات الآلاف الذين تحدث المؤلف عن حياتهم وعن بيئتهم وكأنه يتحدث عن بيئة (شرك) خالصة، وهذا جهل فاضح لا يمكن دفن خطورته بين غلافي كتاب، بقدر ما أحذر هنا من الخطورة الاستعلائية للفهم النخبوي وللفوقية الاجتماعية التي يمارسها بعضنا على البعض الآخر وباسم الدين، ليظن أنه الفرقة الناجية التي تنقذ الآخرين من حوله من الضلال ومن الشرك. سأحيلكم ابتداء إلى بدء الفصل الذي عنونه المؤلف بـ(حال جنوب الجزيرة قبل قدوم الشيخ)، وفيه يقول المؤلف اقتباساً وبالحرف (كان جنوب الجزيرة يعيش فترة من الجهل، والشركيات، لغياب العلماء المصلحين عن مضمار الدعوة، فانتشر الجهل وعمت البدع، وكانت العبادات يغلب عليها التوسل بالقبور والأولياء وتسيطر عليها البدع، وكان السلوك العام أبعد ما يكون عن شرائع الإسلام وسننه). وقد اخترت الجملة السابقة لا لقصد، إلا لأن هذه الجملة بالضبط كانت مرتكزاً في كل ثنايا الكتاب، وكانت هي العمود الفقري الذي انطلق منه المؤلف إلى كل فكرة في هذا الكتاب الضخم، فلا تكاد تخلو صفحة واحدة من تكرار مفردة ( الشرك) بما لهذا اللفظ لا من الخطورة البدهية في قذف معتقدات موحدين مسلمين فحسب، بل من الخطأ المنهجي الجسيم في التصور عن مجتمع كامل لم يعشه المؤلف ولم يأت إلى زمنه ولم يذهب إليه في المطلق ولم يقرأ عن تاريخه الفكري والثقافي ولم يدرس موروثه الأصيل الضخم، ولم يدرك حوزاته العلمية الأصيلة، ولم يقرأ آثار مدارسه وعلمائه الكبار على مر العصور على النحو الذي تكون فيه كل تلك الحقائق. فات على المؤلف من جهله بالبيئة وحقائق المكان أنه المجتمع الأكثر احتضاناً لعشرات الأسر من السادة الأشراف ومن أسر الفقهاء الشهيرة، مثلما هو المكان الذي يكاد يتصدر حركة التأليف والإبداع المعرفي والفكري الثقافي على المستوى الوطني في القرن الهجري ما قبل الماضي حتى منتصف القرن الماضي.

ومن المفارقة المؤسفة أن تقرأ مفردات (الشرك والبدع ) في كل ثنايا الكتاب بكثافة مفرطة، وحين تقرأ في المقابل رسائل الشيخ عبدالله القرعاوي الكثيرة في حواشي الكتاب إلى ولاة أمر هذه البلاد وعلمائها الأفاضل لا تجد ورود هذه المفردات بالقطع، بل كان الشيخ القرعاوي أكثر اعتدالاً وأعدل وصفاً في توصيف البيئة. لقد فات على المؤلف بالاستنتاج ألا يفرق بين حقائق مدارس القرعاوي في محاربة الأمية ونشر فضائل تبصير الناس بأمور الدين وبين رؤيته لهذه المدارس على أنها نشر للمدارس في وجه الشرك والابتداع، وهذه مغالطة مؤسفة. اختلطت هذه المفاهيم لدى المؤلف فلم يع على سبيل المثال أن ما توهمه في كثير من المغالطات شركا وبدعة ليس إلا اختلافات الظرف المذهبي والمرجعية المذهبية ما بين الشيخ القرعاوي وبين المكان الذي اجتهد له، وكلتا المرجعيتين هما من مذاهب أهل السنة والجماعة، ولكن المؤلف كان في كثير من الحالات يسحب ما كان – فقهياً – اختلافياً ما بين مذهبين على مسألة اختلاف عقائدي، ولعله من هنا جاءت كثافة تكراره لمفردات الشرك والابتداع بنحو مخل لا يعكس حقيقة إيمان المكان ومنهجه العقدي. ولعله أيضاً بسبب هذه الرؤى الضيقة استفحلت فينا جميعاً هواجس الشك في بعضنا البعض وبالتالي نشأت أمراض إفرازاتنا الطبقية عطفاً على اعتسافنا المغلوط في فهم هذا الدين وفك الالتباس ما بين اختلاف الأصول مع الاختلاف الفقهي. ذروة هذا الفرز الطبقي بناء على الفهم الديني قد تكمن في عنوان الكتاب وعناوين الفصول التي تتحدث عن (جنوب الجزيرة) رغم أن الفقرة نفسها كانت في قلب تاريخ واضح من (جنوب المملكة)، فجنوب الجزيرة مازال على عمق 800 كلم من المكان الذي كان له الشيخ القرعاوي منارة إشعاع وعلم.