حاولْ ذات مساء أن تسترخي على الوسادة، وتمد يدك إلى جهاز الرائي أي "التلفزيون" فتضغط على الزر المكلف بالإقفال لتظهر أمامك الشاشة وقد علاها السواد والعتمة، في هذه اللحظة التاريخية أنت تعلن الانفصال عن السياج العاطفي السائد، والتحديق الاستهلاكي الملحاح وديمومة النظر والتعلق والاحتباس أمام ذلك الكائن الجبار، والمهيمن على حواسك والمستعبد لمخيلتك والمنتهك لمناعتك، بعد أن أصابك بالارتجاج النفسي وفقدان الرؤية الفاعلة، والاستسلام لتصدعات المحو والهدم التي يمارسها بكل جبروت في استباحة فاضحة لذاكرتك المغتصبة، هنا وعندما تتموضع لحظات الصمت والسكينة وينفك الارتباط القسري بينك وبين الشاشة، وتصبح معزولاً ومحصناً عن ذلك الجهاز المستبد، تبدأ المراوحة ومساءلة الذات المعرفية بطرح سؤالك المطلق وتداعياتك الحادة والمضنية ما لذي لفظته حين أقفلت الجهاز وضيقت الخناق عليه وتحررت وانعتقت من سجنه الخرافي والعبثي؟ لم تخسر شيئاً فقد لفظت ذلك الانحدار الممقوت والهذيان الجامح، والضجيج الصادم والمضمون المضلل بدعوى الفن، فبعد أن نهبوا وشوهوا "يارب هبت شعوب من منيتها واستيقظت أمم من رقدة العدم" ليقوم مقامها وليمرروا بديلاً عنها "بحبك يا حمار" لقد صادرت برغبتك تلك المنظومة الساذجة والسطحية في أفلامهم ومسلسلاتهم من خلال عجز فاضح وانهيالات بليدة ومكون درامي فاسد، لقد لفظت بفعلك هذا حواراتهم المتشظية والمنزوعة من وقار العقلانية والرشد في برامجهم الحوارية المستعرة، عندما أسكت ذلك الجهاز فقد صنت سمعك عن نسيج قولي ومتوالدات غارقة في الرطانة وموغلة في عامياتها المعزولة وأمشاجها النصية، بوصفها الحاضن لمحتواهم الإعلامي وطروحاتهم المنطوقة والمتداولة، عندما تقفل جهازك فأنت تقفل أبواب الشر وتهزم رياح الموت القادمة من أقبية وأقنية الطائفية والمذهبية ومنسوب التطرف العالي، من خلال قنوات مظلمة وانتهازية همها تأجيج الصراع وإشاعة الفوضى بين شعوب الأرض، عندما تغفو على وسادتك وتستعيد قول حافظ إبراهيم عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب:

ويوم أسلمت عز الحق وارتفعت/ عن كاهل الدين أثقال يعانيها. فأنت في زمن "المختار" منجدها/ وأنت في زمن "الصديق" منجيها. في الجاهلية والإسلام هيبته/ تثني الخطوب فلا تعدو عواديها. أخاف حتى الذراري في ملاعبها/ وراع حتى الغواني في ملاهيها. ثم تنظر إلى الممثل الذي يقوم بدور عمر رضي الله عنه فينهد ما استقر في ذاكرتك وتشعر بالضيق ولظى الحسرة بعد أن أرهقوك وحاصروك وسطوا على مخزون قدسيتك وفيض مشاعرك، واستجلبوا نواسخ ترقيعية طافحة بالخذلان والاستخفاف والاستكانة الضريرة.