على غرار الأفلام السينمائية حين تتسرب فيروسات غريبة إلى قرية نائية ثم تبدأ في مهاجمة كائناتها الحية في الخفاء، فيلاحظ الناس أن أحدهم يمر بأعراض مرضية فلا يعيرونه اهتماما، فما يلبث الأمر إلا أن يتطور لنجد ذلك الشخص المريض قد استحال مسخا يستهل مهمته التالية بنقل العدوى إلى البقية واحدا تلو الآخر، حتى تعلن القريةُ بؤرة مرض ينبغي محاصرتها وإنقاذ ما تبقى من سكانها، على ذلك الغرار- ولست متشائما – يحدث لمجتمعنا في أبنائه دون رقيب أو حسيب من مؤسسة ثقافية أو تعليمية أو على أقل تقدير الأسرة التي أثمرت هذا النتاج دون رعاية أو نصح.
أنا وأنتم نرى بأم العين أن تحولا قد أصاب فئاما من الشباب صغار السن دون إرهاصات مقنعة يمكن التعويل عليها، وهذه ولا شك حالة ثقافية تغلغلت في نفوسهم تشربوها رويدا رويدا على مرأى ومسمع من مؤسسات المجتمع برمتها دون أن يقف أحد لوقف هذا التحول الخفي الذي يسيطر على عقول أبنائنا؛ فأضحوا يطلقون المفردات البذيئة متفاخرين، ولا يستنكفون من ارتداء الرث من الملابس – عنوة - وكأنهم قادمون من سفر بعيد في صحراء قاحلة، بل وينشرون بينهم لغتهم الخاصة المهيجة لكل ما هو ضد التحضر والمدنية والرقي والذوق العام.
الحالة ولا شك ثقافية، وما كل ثقافة إيجابية، والدور المنوط بالمؤسسات البحثية – إن وجدت - في جامعاتنا أن تولي هذا الأمر عناية وتركيزا، مسلطة الضوء على مسيرة هذا الداء الذي أصابنا ولا نراه حين نتعدى الحدود إلى دول مجاورة هي أقرب لنا بيئة وطبيعة وتعايشا، وليس صحيحا بالمقابل أن نلقي باللائمة على من لم تتجاوز أعمارهم العشرين مبرئين أنفسنا وقابعين في أبراجنا ننظر ونحذر من الاختلاط بهم وننصرف عن دروبهم، فلا يحظون منا بنصح وهم بالشفقة مما هم فيه جديرون.
هؤلاء أولى بأن تصمم لهم البرامج الرافدة لفكرهم وإمكاناتهم ومهاراتهم وعلى أعلى المستويات، يجب أن يؤخذوا في رحلات علمية واستكشافية داخل وخارج المملكة، وعلى الأندية الأدبية كذلك وملايينها القابعة في البنوك أن تستثمر في هؤلاء، فهم الأبقى والأنفع للوطن ونمائه وقوته، وعلى جمعيات الثقافة والفنون التي احتفت بتقريرها السنوي أن تسأل نفسها كم شابا تمكنت من احتوائه وصقل مهاراته ومواهبه طيلة عام من العمل والجهد؟ وعلى مدارسنا - وأنا ابن بجدتها - أن تعير هذا التحول الخطير اهتماما وتراقب سلوك طلابها وتقوم اعوجاجهم.
الثقافة سلوك نعيشه ونحياه أولا ثم نصدره فكرا وشعرا وسردا ومسرحا، وليست نفرا من الناس يجتمعون مساء ليلة دافئة ليناقشوا "الشعر عند أرسطو" فيما الفيروس يستشري في أعز ما نملك.