كم عدد السعوديين من الذكور في الإنترنت مقابل عدد الإناث؟ أنا في الواقع لا أملك إجابة واضحة محددة بالأرقام عن ذلك، لكني أملك مشاهدات واسعة تشير إلى أن الأدوات الجديدة لا تغير الثقافة بالسرعة التي نتوقعها لكنها تغير طريقتنا في حمل تلك الصفات الثقافية والاجتماعية. بمعنى أن واقعنا الثقافي فيما يتعلق بالموقف من المرأة وموقف المرأة من ذاتها، وموقفنا من الشباب وموقف الشباب من أنفسهم انتقل كله إلى هذا العالم الجديد، فلم يعد في الغالب ينتج كثيرا من الأنماط الثقافية الجديدة بقدر ما بات يعيد إنتاج تلك الأنماط ويوسع دائرة انتشارها. الفتيات اللواتي أوجدن لهن صفحات على "فيس بوك" وحسابات على "تويتر" يملأن صور التعريف الشخصي بصور لفنانات ووجوه نسائية عالمية، وفي ذات الوقت يقصرن معلوماتهن على توصيفات مجازية لا علاقة لها بالحقيقة مثل: "أغرد ببساطة"، "امرأة من زمن النسيان"، "متمردة وأسبح ضد التيار"، وكلها عبارات عامة لا تعكس أيا من الجوانب الحقيقية من حياتهن، ناهيك عن الأسماء المستعارة التي باتت تملأ تلك الصفحات.
إنه الاستتار والحضور الجزئي، الذي تمارسه المرأة في المجتمع.. انتقل ليصبح حاضرا بكل عناصره إنما من واقع حقيقي إلى واقع افتراضي بات يقترب من الحقيقي أو يوشك أن يهيمن عليه. تظل الميزة الأبرز واضحة جدا، فالأصوات التي لم تكن لتقول شيئا ولا لتشارك في شيء أصبح بإمكانها الآن أن تعلق على أحداث وقضايا يتم طرحها في تلك المواقع والصفحات الاجتماعية، يمكن أن يتم التعليق على موضوع عن الهيئة أو عن أحداث مصر وسورية أو عن الانتخابات الفرنسية، وهذه حيلة نفسية عتيقة كنا نشهدها منذ أيام الكتابة على طاولات الجلوس في المدارس أو على جدران الفصول، وهي المشاركة والإدلاء بالرأي وبيان الموقف دون تبنيه، أي دون الظهور كشخصية حقيقية تقول إن هذا الرأي لي، كلا فالمهم لديها هو: إليكم هذا الرأي، بغض النظر عن قائله، ليصبح مكسب القول والمشاركة مكسبا نفسيا خاصا، وليس مكسبا اجتماعيا. هنا تفقد فكرة التواصل قيمتها الحقيقية وتأخذ قيمة أخرى أقل تأثيرا على المستوى العام لكنها أكثر تأثيرا على المستوى النفسي. وحين تتحدث الفتيات عن صفحاتهن على الـ"فيس بوك" أو "تويتر" يتباهين بما قلنه لهذا الوزير أو لهذا المسؤول أو لذلك المؤلف.
تقول إحداهن: لقد كنت ممن تنبأت بأن الجيش الحر سيدخل إلى دمشق، نعم، وقد ساندته كثيرا عبر صفحتي على "فيس بوك" و"رديتن" كثيرا على بعض أتباع النظام.. في الواقع أن ذلك ليس خاصا بالنساء فقط، لكنه ينسحب كثيرا على أصحاب الأسماء المستعارة في تلك الشبكات الاجتماعية، يتفاخر أحدهم بأنه قدم أكثر من نصيحة لأحد الوزراء، وأنه ذات مرة (فش غله) في إحدى شركات الاتصالات بعد أن انقطع الاشتراك عن هاتفه. هذا دخول في عالم من الوهم، يزداد الإقبال عليه لما يصنعه من واقع نفسي خاص للمستخدم يجعله يشعر بأنه مؤثر وقادر على الهجوم والرد والتفاعل، لكن الواقع الحقيقي لا يحمل شيئا من ذلك، مما يعني الحياة في عالمين.
تشير بعض الدراسات النفسية إلى أن تلك الممارسات على الإنترنت يمكن أن تخلق ذاتا غير متزنة، فهي تشارك وتتفاعل إنما من وراء حجاب، هو الاسم المستعار، بينما تعود إلى خمولها وحياتها العادية بمجرد أن تعود لاسمها الحقيقي، وهو ما يخلق حالة من الفصام التي حذر منها كثير من الباحثين منهم الدكتور (ديفيد جرينفيلد)، أستاذ الطب النفسي الأميركي، ومؤسس مركز دراسات الإنترنت العالمي. يتلقى كثير من المشاهير عبر "تويتر" تحديدا مختلف أنواع الشتائم والردود غير المبررة من ذوي الأسماء المستعارة، وبات الكثير معتادا عليها إلى درجة عالية، لأن الواقع النفسي لدى أولئك المستخدمين لا يختلف عمن كانوا يستخدمون جدران دورات المياه للتعبير عن مشاعرهم وآرائهم إذا تحققت المعادلة التالية: أن تقول ما تشاء ضد من تشاء دون أن تتحمل تبعات أيا من ذلك القول.
إنها صفاتنا الثقافية والاجتماعية التي حملناها معنا عبر مختلف المراحل، ولذا فإن الجزم بأن شبكات التواصل الاجتماعي تخلق ثقافة جديدة بحاجة إلى إعادة نظر، ذلك أنها في الغالب إنما تنشر ثقافة قائمة.. والأهم من ذلك أن تلك الثقافة، وهي تمارس عيوبها الاجتماعية عبر تلك الشبكات، باتت تتعرض لأزمات حقيقية واضحة.