لا توجد كلمة ساحرة مرت على الإنسان مثل كلمة (الحرية). التي طالما تاق إلى إدمان إطلاقها من بين شفتيه مفاخراً بها العالمين. فتأمل الأثر الذي يصنعه فيك نطقك لعبارة (أنا حُر)، لتتمكن من الاقتراب فقط من فهم ولمس قوتها السيكولوجية النفسية والشعورية. ويُعتبر تعريف الحرية من بين أعقد ما واجهه الإنسان مُنذ الفجر الأول لتاريخه، ويظهر ذلك من خلال سعيه الحثيث ومحاولاته الغزيرة لتعريفها، فهي التي من أجلها تتابع ظهور الأطروحات الفكرية الفلسفية، واصطدمت ببعضها أحياناً، وتضافرت في أوقات أخرى، واستحضرت التصورات المادية المتعقلة بالمكون الأساسي للحرية، وربطه بالموجود في أصله من جهةٍ أخرى. كل ذلك البحث الدؤوب عن سُبل متجانسة ومُقنعة، تُفضي إلى تبرير مُرضٍ يستوعب تعريف الحرية كقيمة وكمفهوم. ويرى الفيلسوف الإنجليزي (Bain) في وصف (الحرية) أنها "قفل الميتافيزيقيا الصدئ". وتلك إشارة إلى استعصائها الأزلي تاريخياً كفكرة وكمفهوم ما ورائي.

لقد دارت الصراعات في المخيلة الآدمية بين الأطروحات الفكرية في محاولات نضاليةٍ متلاحقة بشكل غير خاضع للنمطية أحياناً، لتحقيق أي خطوة مهمة على طريق البحث الإنساني النهم. واعتمد من ضمن ذلك الغوص في عمق فلسفة المتضادات والمتناقضات كآلية عمل يمكن على ضوئها الاقتراب من نقطة الضوء المنشودة. لكن الإنسان ظل على الدوام يضع نفسه حجر الزاوية الرئيسي. متجاهلاً كماً هائلاً من الكائنات والمخلوقات التي تتوق دوماً إلى الحرية والانعتاق وترفض التقييد كجزء أصيل من غرائزها، كما هو الحال عند الإنسان (بعض الحيوانات تموت حين تسلبها حريتها). وهنا إنما يكون الإنسان قد أوقع نفسه في مأزق كبير متعلق بالجانب الإنساني الأناني أكثر، متناقضاً مع ذاته وبحثه عن تعريف لكل مفاهيم الحرية. ولو أنه أشرك الجمع الكوني في نظرياته لكان ربما قلص المسافة. فالحرية كمفهوم فلسفي هي رفضٌ مرتبط فعلياً بنزعة التركيب البيولوجي والسيكولوجي والمؤثرات المحيطة الكابحة في الغالب. وتبدو كعملية كسبية تحصيلية تجميعية مُستمرة، أي أنها ليست هبةً أو منحةً محدودة، غير خاضعة مطلقاً للطريقة الآدمية البشرية التقليدية المانحة. وهي وفق هذا المنظور تشجع وهج البحث عنها كعملية تقص دائم غير انتقائي. ولأن الحرية ترفض أي نوع من الوصاية الجبرية مهما كان نوعها أو مصدرها، فإنه من الصعوبة جداً أن تقبض على تعريف موحد للحرية في كل المعاجم أو التراث الإنساني. هذا الثراء الجدلي الذي تتمتع به (الحرية) يمنحها في الواقع استمرارية أزلية تتجاوز العمر الآدمي الواعي (الناسوتي). وكذلك أزلية الخلق الكوني والحيواني بكل أشكالهما، وعليه فقد نضطر إلى إشراك الفكر الوجودي ليس كمقابل أو كضد، بل كحليف معقول نستوحي منه ربما التعريف الفلسفي للحرية، ومحاولة الاقتراب من فك طلاسم جدليتها، بشرط الابتعاد بالقدر الكافي عن فكرة تخيل أي شكلٍ مادي للحرية، لأن أية محاولة لعقلنتها إنما هي ـ برأيي ـ نوع من العبث الخاسر في النهاية لا محالة، لأن كل ما يقبل قيود التأطير أو التجسيد إنما هو تقنينٌ (موضوع) يُخرج مفهوم الحرية عن أصله كلياً، لأن ذلك لا يقدم الحرية كعملية كسبية تجميعية مستمرة، وأيضاً لكيلا ندخل نفق الخلط بين فكرتي ومفهومي (الحرية والحريات) حسب ظني. فالحرية - كما أزعم - ليست تلك التي قال عنها الفيلسوف الفرنسي (برجسون) "إن الحرية واقعة" Fait. بل إنني أعتقد أنها ربما عملية تطلع تواق لا نهائي، قد تفسر الحوادث الشعور بوجودها لا بشكها. وقد تكون الحرية شعور الممارسة الحقيقي، إذ لا يتألق مفهوم الحرية الفلسفي ما لم يقابله فعل يحقق الحاجة إلى وجودها. وكل من يجنح إلى تجسيد الحرية فإنما يعكس المفهوم الجوهري والفلسفي لها ويقلبهما رأساً على عقب، ويخرج من نطاق الحرية إلى مفهوم مصطلح الحريات.

إذ الحريات هي مجموعة المطالب التي يحددها الإنسان لتقرير حالات اجتماعية أو فكرية أو سياسية أو دينية محددة. وهي على ارتباط وثيق بالزمان والمكان. على العكس من الحرية التي تمتد إلى الماورائية (الميتافيزيقيا)، ولا تخضع للزمان والمكان وظروفهما، لأنها أصيلة بشكل أكبر من حدود الظرفية، أما (الحريات) فمندرجة تحت المظلة الأكبر التي تُسمى (الحرية).

هكذا يخلط البعض بين الحرية وبين الحريات، على اعتبار أن القدرة على إمكانية فعل الشيء أو تركه هي ما تمثله الحرية، وهذا خطأ منطقي يذهب بفكرة الحرية إلى خارج مفهومها، وهو ما جاء عند كثير من الفلاسفة الوجوديين، متجاوزين صوت الحرية التي لا تتماهى مع مبدأ المقارنة والتفضيل والتردد، كما هو الحال بالنسبة (للحريات) المقننة والمقولبة مُسبقاً التي تتم السيطرة عليها، ووضعها في إطار تصوري معين يمكن تطبيقه جزئياً أو بالكلية، إذ لا صورة محددة مُتعارف عليها للحرية حتى الآن، لكن العصافير يمكنها أن تقدم لنا ما يكفي لنتخيله عن مذاق الحرية ومفهومها، والإحساس بفضائلها اللامتناهية.