لو كنت تمتلك ذاكرة صلبة لا ينخرها تقادم السنين فستتذكر كم مرة - حين كنت طفلاً - كان يقذفك أحدهم عالياً كشيء يتسلى به، ويتوقع بالمقابل منك أن تبتسم وأنت ترى حياتك القصيرة مهددة! وكم مرة اقترب من وجهك الصغير وجه يبدو كفرس نهر مغيراً ملامحه لتبدو أكثر قبحاً، معتقداً أنه بذلك سيضحكك، تنظر للجدار خلفه، ثم له، قبل أن تنخرط بنوبة بكاء من هول ما رأيت! يتدارك والدك الموقف مرقعاً الأمر: "هه.. يبدو أن موعد رضاعته قد حان"، بينما ينتابك وهو يحملك بحضنه مولياً بك عن فيلم الرعب ذاك نفس مشاعرك المختلطة بعدما تنتهي من لعبة قطار الموت، وتسمع: "يالله.. قول باي لعمو.. قول باي"، تعاهده ألا تقولها إلا إذا التزم بألا يرجعك هنا.. كم مرة كاد صديق والدك يتلهم رأسك معتقداً أنه بذلك يقبّلك؟ حسناً بعد أن كبرت قليلاً، كم أنشودة طلبها منك من يلتقيك للمرة الأولى محاولاً إغراءك بحلوى يابسة يدسها بجيبه منذ توحيد المملكة؟ أو أن يحثك عمك وهو يهزك: "خلك رجال.. خلك رجال"، وكأنه يلمح لك بأن المرحلة الجميلة التي تعيشها الآن لا داعي لها، وعليك أن تقفزها لتصبح كائناً آخر لا تعرفه. هل سمعت أحد الكبار يقول لمن بجانبه همساً وأنت جالس تتغشاك البراءة: "لا عليك، هذا طفل لا يدرك ما نتحدث عنه.. أكمل".. بينما يواصل صديقه سرد حكاياته الـ +18؟ .. ورغم كل هذا وبعد أن نكبر نمارس ما كانوا يفعلونه بنا، تماماً.

تذكرت هذا وأنا أغير شكل وجهي رافعاً الصغيرة "دانه" عالياً، ومتوهماً أنها ستهضمني قبل أن تطلق صرخة وكأنها مدفع رمضان فأقول وأنا أخلصها مني: "باسم الله عليها، الظاهر جوعانه.. إيه وين كنا".