أمتع الأوقات ساعات تذوق المعرفة، وكَتَب العقاد كتابا عن الحياة بين الكتب، ويروى عنه أنه كان يمضي وقته في القراءة بأوقات محفوظة، ففي الصباح في غرفة، وبعد الظهر في أخرى، وعند الأصيل في ظل ظليل، وعند المساء في ضوء مريح للناظرين والقارئين، فيلتهم أكداسا وأطنانا من المعرفة، وأنا أغبطه وأتمنى لنفسي مستقراً ومستودعا بين الكتب، كما مات الجاحظ بانهيار مكتبته فوق رأسه؟
أقول هذا لأنني كنت البارحة بين بناتي أروي لهن غرامي بالمعرفة، وتذوقي للأفكار اللذيذة من رحيق ينابيع الكتب، وأنصح القاريء أن يمشي على بعض من الدرب الذي مشيت فيه، فالأخت هيام ملقي مثلا الكاتبة هي من عرفني على الوردي عالم الاجتماع العراقي، وكان ذلك في الجولان السوري قبل سنوات، فقرأت كتابه منطق ابن خلدون بلذة وغرام وأنا في السيارة وعبود يسوق بين بير عجم ودمشق وأنا غاطس في حمام لذيذ من المعرفة لا أحب مغادرته حتى أنهيت الكتاب، وكان مصورا في جزئين ثم اقتنيته في جزء واحد، وقلت إن هذا الكاتب العراقي الساحر لابد له من كتب أخرى، وهكذا وقعت تحت يدي مجموعة من كتبه مثل وعاظ السلاطين، ومهزلة العقل البشري، وشخصية الإنسان العراقي، وخوارق اللاشعور والأحلام، ولكن أعظم كتبه على الإطلاق موسوعته في التاريخ العراقي الحديث، حيث اشتغلت عليه ستة أشهر، كما حصل معي في كتاب عبد الله عنان عن التاريخ الأندلسي ومقدمة ابن خلدون، الأول اشتغلت عليه أيضا ستة أشهر والثاني ثلاث أشهر عدا حتى هضمت بعضه، وموسوعة الوردي تحدث فيها عن أشياء شتى رافقت نشأة العراق الحديث فتكلم عن البابية والبهائية وقرة عين والماسونية والصهيونية والانكشارية.
ومن هذه الكتب الروائع والمدارس البينات أيضا كتاب النيهوم في محنة ثقافة مزورة، وهو كتاب اجتمعت به في حلب في جامع الفرقان فغرقت فيه وتركت من حولي حتى التهمته في أربع ساعات، وقلت لابد من قراءته من جديد وهذا الذي كان، ثم اطلعت على تراث الرجل وهو الآن بين يدي الرحمن الرحيم فقد مات بعمر صغير نسبيا عن 58 عاما، وهكذا التهمت بقية كتبه، وهي سحر من السحر، وروح عظيمة وفكر نير ومدرسة مميزة، فقرأت إسلام ضد الإسلام، والطريق إلى مكة، وقرود ... قرود والناقد، ومن أعماله المميزة موسوعة التاريخ.
ومن هذه الكتب أذكر في النهاية غطفان القادري الذي أهداني كتاب العبودية المختارة وألح علي بالاطلاع عليه، وكان كتابا رثا صغير البنط يحتاج إلى مكبر لقراءته، وأغراني فيه صغر حجمه وكنت على سفر إلى كندا فقلت أتسلى فيه في طريق طويل يمتد 18 ساعة طيران، وحين قلبت الكتاب للمرة الأولى خطر في بالي كتاب العبودية لابن تيمية.
ولكن حين فتحت الكتاب ذهلت ثم ذهلت ثم ذهلت ثلاث مرات، لشاب في الثلاثينات كتب كتابه في شرح آلة الطغيان في أربعين صفحة قبل أربعة قرون فقد كتبه عام 1562 م فتبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام.