فوجئت وأنا جالس ذات صباح لتناول الشاي في أحد الفنادق بشخص يبدو أنه على علم ودراية كبيرة بالواقع الاجتماعي في المملكة، وإذا به يصافحني بحرارة وكأنه يعرفني منذ زمن طويل.
وبعد أن جلسنا قام على الفور وقال لي بصوت مرتفع وكأنه يغني ويرقص: (وجدتها، وجدتها). فقلت: يا فتاح يا عليم ويا رزاق يا كريم، أأرخميدس أنت؟ قال: لا. قلت له: ما هي إذن تلك التي (وجدتها)؟ قال: الحل لمشكلة قيادة المرأة للسيارة بالمملكة. قلت له: فضلاً اخفض من صوتك حتى لا يظن من حولنا بالفندق أننا جمع من المعتوهين أو (المخابيل)، ثم لماذا تقحمني في هذا الموضوع؟ قال: إن حلي هو فرصة استثمارية كبيرة رغبت في أن تشاركني فيها، فضلاً على أنه يعالج مشكلة لم تستطيعوا أنتم حلها منذ عدة عقود.
قلت له: ما هي هذه الفرصة الاستثمارية؟ قال: أن نعمل أنا وأنت معاً على التفاوض مع أحد مصانع السيارات العالمية على صناعة سيارات ذات مواصفات معينة تتفق مع خصوصية المجتمع السعودي، بل إني لا أخفيك أن ذلك المصنع موجود وجاهز للبدء في التصنيع شريطة ألا يقل عدد السيارات المطلوبة خلال ثلاث سنوات عن مليون سيارة.
قلت له: وما علاقة هذه السيارات بموضوع قيادة المرأة للسيارة؟
قال: ها أنت الآن تسألني سؤالاً هاماً وجوابه سوف يوضح لك لماذا قفزت فجأة وقلت (وجدتها، وجدتها).
قلت له: ما هو الجواب إذاً؟
قال: أن نطلب من هذا المصنع صناعة سيارات تمكن المرأة من قيادة السيارة بشكل يتفق مع واقع المجتمع السعودي.
قلت له: بالله عليك أفصح، فأنا فضلاً عن أني لم أفهمك بعد، فإني لا أحب العموميات والكلام المرسل على عواهنه.
قال: دعني أرسم لك شكل هذه السيارة. فأخرج قلماً من جيبه وشرع بالفعل في رسمها، ومن ثم بدأ يشرح فكرته لي، حيث قال: نطلب من الشركة المصنعة أن يكون (الدركسون) بالخلف وبذلك تتمكن المرأة من قيادة السيارة وهي جالسة في الخلف مع ضرورة تواجد السائق كراكب في المقدمة، كما هو معمول به الآن، دون أن يكون له أي دور في قيادة السيارة شأنه شأن أي من الركاب الآخرين. قلت: وماذا عن (الفرامل)؟ قال: نضعها في الخلف أيضاً. وماذا عن (التعشيق)؟ قال يكون بالخلف أيضاً. قلت: وما ذا عن (البوري) واللمبات وباقي المفاتيح والأجهزة الأخرى؟ قال: كلها ستكون بالخلف.
قلت له: إذاً ما الحكمة أو القصد من وجود السائق بالأمام؟ قال: إنك بذلك تحقق مطلباً اجتماعياً وهو كما ذكرت ما هو معمول به حالياً، وبذلك نتفادى أي تصادم مع كافة شرائح المجتمع. قلت له: لكن كيف للمرأة أن تقود السيارة وأمامها السائق فهو بذلك سوف يعيق رؤيتها؟ قال: ها أنت الآن بدأت تستوعب ما أقول، والحقيقة أن أسئلتك بدأت تصبح أكثر نضوجاً. قال: أمامنا عدة خيارات، فإما أن يُمنع السائق البتة من الجلوس على المقعد الأمامي ويكون دوماً خالياً من أي راكب، أو أن يكون شرطاً من شروط استقدام أي سائق من الآن وصاعداً أن لا يزيد طول قامته عن 120 سم، بحيث لا يعيق رؤية المرأة التي تقود السيارة من الخلف، أو أن نطلب من الشركة المصنعة أن تزيد من ارتفاع كرسي المرأة التي تقود السيارة وأن تقلل من ارتفاع كرسي الشخص الذي أمامها وهو السائق (أو مكان السائق سابقا) أو أن تكون قيادة المرأة للسيارة عن طريق الخلف وأن ينظر من هم في المقاعد الأمامية للأمام فقط. قلت: له ألا تعتقد أن هذا أمر مستحيل؟ قال: أبداً، فانظر لدول مثل بريطانيا أو سنغافورة أو حتى كينيا حيث قاموا بصناعة سيارات تتفق مع احتياجاتهم الذاتية.
قلت له: يبدو أن الفكرة تستحق التأمل والتفكير، ولكن ما الذي تريده مني أنا؟ قال: أريد منك أمرين، الأول هو أن تسعى معي لإقناع الجهات المعنية في بلدك بأن تسمح لنا باستيراد وبيع مثل هذه السيارات، وأن تساعدني في جمع ما يقارب (25%) من قيمة هذا المشروع من خلال المستثمرين الذين يرغبون في الدخول معنا فيه. قلت له: أما عن طلبك الأول، فأنا لا حول ولا قوة لي، لأني إنسان بسيط شأني شأن أي إنسان آخر وبذلك لا أستطيع مساعدتك في هذا الأمر. وأما عن الطلب الثاني فأنا مجرد محامٍ ولا أفهم في التجارة شيئاً، فهي ليست بضاعتي أو حقلي الذي أسرح وأمرح فيه، ويبدو أنك أضعت وقتك معي لأني لست الشخص المناسب لمساعدتك أو التعاون معك. وقررت الانصراف وفعلاً تم ذلك، إلا أني صرفت وقتاً كبيراً بعد ذلك في التفكير فيما قاله لي ذلك الشخص، حيث بدا لي إما أنه كان صادقاً وكان بالفعل يتحدث عما يعتبره فرصة استثمارية، أو أنه أراد أن يوضح لي أن مجتمعي قد أدمن المتناقضات، أو أنه كان يسخر من أمر شغل المجتمع كثيراً واستنزف وقته وتفكيره دون أن يكون لذلك أي داعٍ، أو أنه أراد بذلك تعرية تلك المعضلة بحيث يتضح لي ولغيري أنها ما هي إلا حاجز نفسي ووهم اصطناعي وجبل جليد من الخوف والتخوف خلقه المجتمع بيديه، أو أن لهذا الرجل مآرب أخرى لم أستطع فهمها واستيعابها، إلا أني ومهما كانت نواياه فما زلت في حيرة من أمري مما حدث، وكان أول قرار اتخذته بعد ذلك هو عدم الذهاب مرة أخرى لذلك الفندق حتى لا أرى (أرخميدس آخر) يحرضني على التفكير في وقت كنت فيه وما زلت أعيش سعيداً هانئ البال في مجتمعي دون أن أفكر.