بعد الهجوم الإسرائيلي الاستفزازي والصلِف على سفينة قافلة الحريّة في المياه الدولية بعرض البحر الأبيض المتوسط وما ترتب عليه من ضحايا ارتفعت أصوات كثيرة في أوروبا من جميع المشارب، ومن بينها شخصيات يهودية بارزة، للتنديد بما فعلته إسرائيل. ودعوات عديدة لتوجيه سفن أوروبية إنسانية إلى غزّة.
وعشرات الآلاف جابوا شوارع روما ولندن وباريس احتجاجا على العدوان الإسرائيلي على غزّة خلال شهر ديسمبر ـ كانون الأول 2008 ويناير ـ كانون الثاني 2009. لا شك في المحصّلة أن الرأي العام الأوروبي غدا أكثر معرفة بالقضية الفلسطينية وأكثر "حساسية" حيالها.
بالمقابل تدهورت صورة إسرائيل لدى هذا الرأي العام. هذا ما دلّ عليه بوضوح استطلاع للرأي أُجري في عام 2005 على صعيد جميع بلدان الاتحاد الأوروبي وأظهر أن أكثر من 50 % من الذين جرى توجيه السؤال لهم قد وضعوا إسرائيل في المرتبة الأولى بين البلدان المسببة للحروب في العالم.
هذه المقدمات تثبتها الوقائع ويقرّ بها الجميع. ولكن المشكلة ليست في المقدمات وإنّما في النتائج التي يتم استخلاصها منها. نعم هناك تحوّل هام في موقف الرأي العام الأوروبي ولكن دون ترجمة ذلك في السياسات الأوروبية ودون أن يثقل ذلك حقيقة على نتائج مختلف العمليات الانتحابية. إن جميع الاحتجاجات لم تمنع قبل سنوات وقوع الحرب على العراق ولم تكن هي التي منعت إسرائيل عن متابعة غيّها وجريمتها ضد أهالي غزّة ولم ترغمها على القبول بتشكيل لجنة دولية للتحقيق بالاعتداء على قافلة الحريّة.
بالمقابل على الصعيد الانتخابي أعاد البريطانيون توني بلير للمرّة الثانية رغم موقفه المتحمّس للحرب ضد العراق والداعم بلا حدود لإسرائيل. وفي فترة أقرب أولى، أو جدد، الناخبون ثقتهم لأصدقاء مخلصين لإسرائيل في ثلاثة بلدان أوروبية رئيسية هي فرنسا وألمانيا وإيطاليا . ففي عام 2007 فاز الرئيس الفرنسي الحالي نيكولا ساركوزي بالانتخابات الرئاسية الفرنسية وهو الذي لا يتردد في الإعلان جهارا وبدون أية مواربة أنه "صديق حميم لإسرائيل". وفي عام 2008 عاد سيلفيو برلسكوني "ظافرا" إلى السلطة، وكان قد أعلن مرارا وتكرارا "صداقته الكبيرة وحبّه لإسرائيل وشعبها" واقترح في مطلع شهر فبراير ـ شباط انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي ولم تتردد إيطاليا ـ برلسكوني في إعلان معارضتها لتقرير غولدستون حول العدوان الإسرائيلي على غزّة. وفي ألمانيا استمرّت السيدة أنجيلا ميركل في السلطة نتيجة للانتخابات التشريعية لعام 2009 وقد كانت أول رئيس حكومة أجنبي يتحدث أمام الكنيست الإسرائيلي في شهر يونيو ـ حزيران 2008 وحرصت على أن تستهل خطابها باللغة العبرية. بكل الأحوال يتفق الجميع أنها تتبنّى سياسة دعم ألمانية غير مسبوقة وغير مشروطة لإسرائيل.
للتذكير كان الصوت الأوروبي الأكثر جرأة حيال إسرائيل هو صوت الجنرال ديغول الذي لم يتردد في قول جملته الشهيرة بمؤتمر صحفي بعد حرب يونيو ـ حزيران 1967 التي وصف فيها اليهود بما مفاده أنهم " شعب من النخبة . معتدّون بأنفسهم وميّالون للهيمنة على الآخرين". لقد اعتبر أن إسرائيل أشعلت الحرب ولم تأبه لنصائحه بعدم فعل ذلك بل استخفّت فيها. أثارت تلك الجملة غضبا كبيرا يومها لدى يهود فرنسا عامّة وأعلن مثقفوهم ذوو السطوة في وسائل الإعلام "الحرب" على الجنرال. مع ذلك استمرت أصداء الإرث الديغولي في أصوات بعض "الديغوليين" من أمثال ميشيل جوبير الذي تساءل عندما بدأت حرب أكتوبر ـ تشرين أول 1973، وكان يومها يشغل منصب الأمين العام لقصر الإليزيه، قائلا ما معناه: "هل محاولة عودة الإنسان إلى دياره تعني اعتداء بالضرورة؟".
لكن الأمور تغيّرت في العقود التالية اقترابا وتقرّبا من إسرائيل اقتصاديا ودبلوماسيا وإستراتيجيا وصولا إلى قرار الاتحاد الأوروبي في شهر ديسمبر ـ كانون الأول 2009 تعميق الشراكة الإستراتيجية مع إسرائيل ودون أية شروط لها علاقة من قريب أو بعيد بعملية السلام في الشرق الأوسط. ولم يصدر عن أية دولة من دول الاتحاد الأوروبي اعتراض على انضمام إسرائيل إلى "منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية" التي تضم الدول المتطوّرة في العالم.
نعم، أصبح الرأي العام الأوروبي أكثر وعيا وإدراكا بقضايانا وأكثر اهتماما بها، وهذه نقطة إيجابية بلا شك. ولكنه ليس، ولم يكن، فاعلا في المساهمة بفرض سياسات أوروبية جديدة. فالسياسة تقررها موازين القوى أوّلا وأخيرا. والوضع اليوم أسوأ بعد زوال الاتحاد السوفيتي الذي كانت له مواقف متحفظّة حيال إسرائيل، ليس حبّا في العرب ولكن لخدمة مصالحه معهم.
لكن المشكلة الحقيقية هي في مكان آخر. إنها أوّلا وأساسا واليوم وأمس وغدا في الضعف العربي المزمن. والضعفاء يسقطون حكما من حسابات المواقف السياسية. وعندما يخلي الضعف المكان لموقف عربي متماسك بالحد الأدنى يكون وزن الرأي العام أكبر قيمة وفعالية وسيغيّر عندها قادة أوروبا، وغير أوروبا، وحتى أكثرهم حبا لإسرائيل مواقفهم. هكذا يقول قاموس السياسة وتاريخها.