أحنُّ لحيِّنا العتيق.. مهد الطفولة ومربع بلوغ الصبا.. حيُّنا القديم عليل الجسد، يتنفس زفيرا.. على وقعة يد المخطط الأول، وأظنه مات إلا أن خططه الورقية سارية المفعول! اللهم إلا بعض المباني العشوائية الشاهقة التي تصطف جنبا إلى جنب وكأنها طابور صباحي في مدرسة شعبية!

حيُّنا التراثي شهد تعاقب أجيال وأجيال، منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر ويتنفس هواءه المخلوط بعبق الذكريات الجميلة وحسرة الأمنيات المستحيلة! جارنا دحموس بعض من كل شيخ طاعن حفرت السنون تجاعيدها على محياه، لتخبرنا أن هناك خريطة من الأسرار طواها عمره المديد.. روحه الشبابية طغت على جسده الهرم.. يدعي أنه شاعر! بمساحة ثلاثين مترا داخل أسوار منزله الريفي يصبح ويمسي، طيوره وأغنامه قصائد شعبية، يردد على أشنافها أهازيج في ديرته..

يحن لديرته وربعه ومسقط رأسه وأنا كذلك!

كلانا خطان متوازيان لا يلتقيان أبدا إلا في هذه النقطة، هو امتنع عن الزيارة بمزاجه وأنا لا حيلة لي، فالأهل حملوني مع أمتعتهم وقلبي حينذاك صغير لا يتحمل إلا رؤية الأشياء الجميلة، ولكنه يرصد الأشياء المعتمة كعدسة دقيقة تلتقط الصورة عن بعد وتحتفظ بالتفاصيل.. كبرت ولم يعد قلبي واحة غناء ولا شاشة بيضاء، فأصبحت أكثر واقعية.. وتجمعت تلك الذرات السوداء كصخرة رابضة على صدري، وتمر الذكريات كفيلم وثائقي محمل بسلبيات جمة منها: سوء خلق زوجته ويدها الخفيفة التي تسرق الكحل من بؤبؤ العين في وضح النهار.. وتقسم بالله إن أياديها أنصع من بياض العفة وأطهر من ماء الثلج والبرد!.. لسانها الطويل أمضى من منشار الشراسة، دحموس يؤازرها في السراء والضراء ويردد مقولة: "انصر أخاك ظالما أو مظلوما".. ثنائي فريد من نوعه تعاونا معا على الإثم والعدوان لا على الصلح والوئام، وخلفا في النفس عقدا لا يفكها أمهر طبيب نفساني.. ودائما أردد أغنية فيروز و"أشقلب" كلماتها لأكيفها على هوى نفسي:

"مريت بالشوارع.. شوارع بيتي العتيقة قدام الدكاكين.. البقيت من الساكنين ومشيت بالشوارع.. شوارع بيتي العتيقة"!

شيخنا واعظ ومرشد وناصح من الدرجة الأولى، وفقيه ومفت يحب العدل والإنصاف إذا كان في نزهة وبعيدا عن دحموسته الثانية!

زوجته الثانية كحقيبة نقوده السرية ترافقه في حله وترحاله، وكل عثرة وفشل وصدمة فإن الأولى هي السبب والشماعة لكل طالع شؤم في حياته! فهي تمنع عنه إلهام الشعر ووحيه والرزق وأهله! وذلك حسب تصريحات أسطوانته المشروخة وصدى صوته، أما ما يتعلق بالمواضيع الأخرى فهما كشحمة وضعت على لهب نار تشم رائحة شياطها على بعد كيلومتر، وشجارهما ذو نفس طويل.. ما أغربهما يتقنان الأدوار بحرفية وجودة منقطعة النظير, ويتبادلانها حسب ظروفهما الكيدية ومصلحتهما الشخصية!

دحموس كما أسلفنا شاعر ومفت وإمام مسجد ومؤذن ومزارع، كيّف نفسه مع بيئته الجديدة وأقنعها بممارسة طقوسه القروية في المدينة، فأصبح منزله الريفي الشعبي قرية مصغرة مهجورة.. ثغاء أغنامه السقيمة التي تقتات بقايا الخبز والكيك منتهي الصلاحية ومزرعة خضاره المسمدة بمخلفات دواجنه وأغنامه تنتج ثمارا لا تسمن ولا تغني من حاجة أهله ولا حيه، وعشوائيات طيور وحمام ودجاج يخيل للسامع أنه في حديقة حيوانات! وهدير الماء ومحولات الكهرباء التي تزعج الجيران والزوار! طنين نحله الذي يقتات السكر وشراب البيبسي كبير الحجم قليل الإنتاج ولسعاته مميتة، دعت الكثير من أبناء الحي والجيران للفرار إلى أماكن أكثر أمانا وأنقى هواء!

شيخنا يمارس حريته الفرعونية بأريحية تامة ونفسية لا يدخلها الهم والسأم عاملا بمبدأ "وش فرعنك يافرعون.." وبالمثل "إذا كان خصمك القاضي مين تقاضي"!