تباينت ردود الأفعال – شعبياً ورسمياً – حيال قضية التمويل الأجنبي لمنظمات المجتمع المدني في مصر والتي شغلت الرأي العام المحلي والدولي خلال الفترة الماضية وأصبحت حديث المجالس ومادة تناولها عدد من الصحف ووكالات الأنباء. ففي حين لم يبد المواطن اهتماماً كبيراً بالموضوع ولم يتفاعل معه، وهو الذي عرف – كسائر الشعوب العربية - بفرط حساسيته تجاه كل ما يمس كرامته، إلا أن مجلس الشعب أولى الأمر عناية فائقة فوجَّه رئيسه سعد الكتاتني انتقادات لافتة للسلطة التنفيذية، واتهمها بالتدخل في أعمال القضاء وتعطيل سير العدالة.

ووصلت حدة الرد البرلماني إلى مرحلة المطالبة باستدعاء رئيس المجلس الأعلى للقوات المسلحة، المشير محمد حسين طنطاوي، أمام المجلس لمساءلته واستجوابه، كما ذهب آخرون أبعد من ذلك مطالبين بطرد السفيرة الأميركية في القاهرة، آن باترسون، إذا ما ثبت أنها مارست ضغوطاً على الحكومة للإفراج عن المتهمين.

وفي هذا الصدد، صبَّ عدد من المرشحين المحتملين لانتخابات الرئاسة، وناشطون آخرون، جام غضبهم على الحكومة واتهموها بالرضوخ للضغوط الأميركية والخنوع للإملاءات الخارجية للتأثير على سير العدالة وتشويه صورة القضاء المصري. ولم تقتصر حملة الانتقادات على المجلس العسكري والحكومة فحسب، بل شملت شخصيات قضائية عدة، بينها رئيس محكمة استئناف القاهرة، عبد المعز إبراهيم، الذي أعلن بكل وضوح وصراحة أنه هو الذي أصدر الأمر بالإفراج عن المتهمين والسماح بمغادرتهم أرض البلاد، لأن التهمة التي وجهت إليهم تتعلق بانضمامهم إلى جمعيات تعمل بدون ترخيص حكومي، وهي تهمة تصنف على أنها "جنحة" وليست "جناية"، وعقوبتها القصوى لا تتجاوز الغرامة المالية. كما رفع بعضهم أكثر من علامة استفهام حول السبب الحقيقي الذي دعا القاضي المكلَّف بالنظر في القضية، المستشار محمد شكري إلى التنحِّي، وهذا ما فسَّره إبراهيم باستشعار الحرج، حيث إن لشكري ابناً يعمل محامياً في مكتب على علاقة بالسفارة الأميركية.

السبب الحقيقي

ولعلّ السبب الحقيقي وراء تفاوت ردود الفعل ما بين المواطن ورجل السياسة، هو أن الأول يرى ضرورة أن تولي الحكومة اهتمامها لحل قضاياه المعيشية بحسبانها التحدي الأكثر أهمية، بدلاً من الانصراف إلى مسائل جانبية أو تسليط الأضواء على قضايا كان يمكن أن تجد طريقها للحل في دواوين الحكومة أو ساحات القضاء دون ضجيج إعلامي ربما يكون مقصوداً لتحقيق أهداف أخرى، لذلك لم تشهد القاهرة أي مسيرات أو مظاهرات صاخبة كالتي يتم تنظيمها عادة بسبب قضايا مشابهة.

وتبدو المفارقة في التشدُّد الكبير الذي أبدته السلطات في البداية تجاه هذه القضية ورفضها كل محاولات الحل الدبلوماسي لها وإعراضها عن كافة محاولات الوساطة أو الإذعان للمطالب الأميركية وإصرارها على أن تأخذ القضية مجراها الطبيعي ضمن قنوات القضاء المصري، وعدم استجابتها لتهديدات واشنطن المتكررة التي وصلت حد التلويح بحرمان القاهرة من المعونة الأميركية التي تبلغ ملياراً و300 مليون دولار سنوياً، ثم إذعانها المفاجئ وموافقتها على إطلاق سراح المتهمين بغتة ودون مقدمات أو سابق إنذار.. وهذا ما عزاه كثيرون إلى وجود صفقة سرية بين الجانبين.

مكاشفة الشعب

ويرى المرشح المحتمل لانتخابات الرئاسة المصرية، حازم صلاح أبو إسماعيل، أن الحكومة أخطأت بموافقتها على طي ملف القضية، وأنها أساءت لتاريخ القضاء المعروف بنزاهته واستقلاله. وقال: "ليس هناك متسع أمامنا للاختيار، إما أن نحيا كراماً، ونختار اختياراً صحيحاً ينتمي إلى كرامتنا وبلدنا وشعبنا ونحفظ علينا نخوتنا، أو أن نضيع ضياعاً ممكَّناً.. هل رأيتم إلى أي درجة بلغ الأمر حتى يتم تهريب المتهمين الأميركيين رغماً عن أنف كرامة مصر بكل أهلها؟ انظروا إلى الترتيب. أول خطوة كانت أن وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون أعلنت أن مسألة المتهمين في طريقها إلى الحل القريب، ومعنى ذلك أنها كانت تعلم ما هي الخطوات المقبلة، وفي اليوم التالي فوجئنا بثلاث خطوات دفعة واحدة، وللأسف كلها صادرة عن المرفق القضائي: الأولى تنحي الهيئة التي كانت تنظر القضية، والثانية أنهم عهدوا بالقضية إلى هيئة من أجل أن تصدر قراراً واحداً فقط هو إلغاء منع المتهمين من السفر، والثالثة أنه سيتم في المستقبل تحديد هيئة جديدة تكون مختصة بنظر القضية". ودعا أبو إسماعيل الحكومة إلى وضع النقاط على الحروف ومكاشفة شعبها بكل تفاصيل القضية.

ضغوط خارجية

من جانبه، أكد المرشح المحتمل للرئاسة، عمرو موسى، وجود ضغوط سياسية قوية مارستها الولايات المتحدة الأميركية على الحكومة للإفراج عن رعاياها وإغلاق ملف القضية. وقال: "واضح أن هناك ضغوطاً سياسية مورست، وأن هناك تدخلاً أدى إلى تنحي المحكمة في قضية التمويل الأجنبي الخاصة بمنظمات المجتمع المدني. ومن المؤسف أن الحكومة استجابت لهذه الضغوط ورضخت لها، وهي التي كسبت سنداً شعبياً كبيراً وتعاطفاً واسعاً عندما تمسكت بموقفها وأصرت على استكمال الإجراءات القضائية ولو كلفها ذلك التضحية بالمساعدات العسكرية الأميركية، وتجلى ذلك السند الشعبي في الدعوة للاستغناء عن تلك المعونة".

وأبدى موسى أسفه لما لحق بالقضاء المصري من تشويه وتدخل حكومي أدى إلى هز صورته الراسخة. وقال: "للأسف دخل القضاء المصري دائرة من الالتباس والغموض، زادها سوءاً تبادل الاتهامات علنياً بين كبار القضاة، وهذا ما أدينه بكل قوة، لأن هذا لا يصح بأي حال من الأحوال".

استغلال القضاء

وعلى صعيد تفاعل الكيانات والائتلافات السياسية، طالب اتحاد شباب الثورة بطرد السفيرة باترسون من مصر في حالة ثبوت تدخل السفارة الأميركية بممارسة ضغوط على القضاء المصري في القضية، داعياً إلى مثول أعضاء المجلس العسكري أمام لجنة الدفاع والأمن القومي بمجلس الشعب للتحقيق معهم في هذه القضية، وفي شأن الطائرة العسكرية الأميركية التي نقلت مدنيين أميركيين متهمين في قضية مصرية على أرض دولة ذات سيادة. وأبدى الاتحاد تخوفه من وجود صفقه ما تم عقدها مع الولايات المتحدة بشأن المتهمين على حساب استقلالية القضاء الذي يطالب الجميع بالسمو به فوق الحسابات الآنية والتجاذبات السياسية أو الضغط عليه مهما كانت حساسية القضية أو جنسيات أطرافها.

وقال المتحدث باسم الاتحاد، تامر القاضي: "القضية تم استخدامها منذ بدايتها في وسائل الإعلام المختلفة لتشويه سمعة الثورة والثوار دون أدلة على أحد، والآن نجد أن الإفراج عنهم تم بكل سهولة، ودون مراعاة للشعب المصري.. فلماذا إذن تم القبض عليهم من الأساس وتم شن حملة على منظمات المجتمع المدني طالما أنه لن تتم محاسبتهم أو توجيه تهمة واضحة لهم؟". وأكد القاضي أن القضاء المصري حر، وأنهم يطالبون باستقلاله ولا يقبلون بالتدخل في شؤونه من أي طرف، حتى لو كانت أقوى دولة في العالم.

تغليب المصلحة

أما المرشَّح المحتمل، محمد سليم العوا، فغرَّد خارج هذا السرب عندما دعا إلى أخذ الأمر من منظور المصلحة والفائدة. وقال خلال مؤتمر انتخابي: "السياسة هي فن التفاوض، وكل شيء مباح فيها، فيجب أن يعلم الشعب المصري المقابل الذي تحقق نظير الإفراج عن المتهمين الأميركيين حتى يتم تقييمه وبالتالي نمنع البلبلة". وأضاف: "إذا كانت مصر أفرجت عن هؤلاء الأجانب نتيجة مباحثات أدت إلى تحقيق فائدة تزيد على بقائهم في الحبس الاحتياطي ومحاكمتهم، فأهلاً ومرحباً بذلك، ولكن على المجلس الأعلى للقوات المسلحة أن يعلن سبب الإفراج عنهم، وما هو الاتفاق الذي تم بشأن هذا الإفراج وما فائدة مصر من ذلك؟ أما إذا كانت الحكومة أفرجت عنهم لأن هناك ضغوطاً مورست عليها، فكان عليها أن تلجأ إلى شعبها وأن تصارحه بذلك حتى تستمد منه القوة والسند مما يمكنها من مواجهة هذه الضغوط ومقاومتها وعدم الإذعان لها".

تشويه سمعة

ومما زاد في البلبلة ووسع من الدهشة، توجيه السيناتور الأميركي جون ماكين شكره لـ "جماعة الإخوان المسلمين" على دورها في المساعدة لإكمال الإفراج عن المتهمين. وهذا ما نفته "الجماعة" بشدة على لسان الناطق باسمها، الدكتور محمد غزلان، الذي أكد عدم قيام جماعته بأي دور في تلك الصفقة، مرجعاً تصريحات السيناتور الأميركي إلى "الرغبة في تشويه صورة الجماعة التي حققت مكاسب لافتة في الانتخابات التشريعية الأخيرة، وهو ما أزعج الغرب عموماً والولايات المتحدة خصوصاً، فلجأت إلى ضرب صورتها في أذهان الشعب المصري وإحداث الوقيعة بينهم". وأضاف: "ندين التدخل في أعمال القضاء والضغط على القضاة وإحراجهم، سواء كان الضغط من الداخل أو من الخارج، ونطالب بمحاسبة كل من مارس هذا العدوان. ومما زاد في دهشتنا هو ذلك التحول المفاجئ من المواقف العنترية التي صرح بها أفراد من المجلس العسكري والوزيرة فايزة أبو النجا ورئيس الوزراء كمال الجنزوري، بأن مصر لن تركع أو تستجيب لضغوط الولايات المتحدة الأميركية، لأن هذا أمر يمرغ كرامة المصريين في الوحل، لكنهم نكصوا عما وعدوا به مما يقطع بأن هؤلاء جميعاً لا يشعرون بأن ثورة مجيدة قد قامت في مصر، ومن ثم فهم كلهم لا يصلحون لإدارة البلاد لإقامة نظام جديد يقوم على الحرية والسيادة والكرامة للشعب". وختم بقوله: "السماح للمتهمين بالسفر مقابل كفالة مالية وترحيلهم على متن طائرة عسكرية أميركية نزلت في مطار القاهرة دون إذن، مقابل غرامة مالية ينبئ بأن المسؤولين المصريين يقايضون الكرامة الوطنية التي لا تقدر بأموال الدنيا بثمن بخس".

محاسبة المسؤولين

وكان رئيس مجلس الشعب، محمد سعد الكتاتني، أكد عزم المجلس على استدعاء رئيس الحكومة والوزراء المعنيين في القضية ومحاسبة أي مسؤول مهما كان موقعه إذا ثبت تورطه. ودافع عن جماعة الإخوان المسلمين التي ينتمي إليها، نافياً أن يكون لها أي دور في إغلاق ملف القضية. وقال: "قيام مسؤول أميركي بتقديم الشكر للجماعة وللمجلس العسكري على دورهم في الإفراج عن المتهمين يهدف للوقيعة بين المصريين"، نافياَ ما تردَّد عن وجود صفقة للإفراج عن المتهمين قائلاً: "لا توجد أي صفقات سياسية تتم في الخفاء، وإذا كان هناك صفقات مثل تبادل الأسرى فيجب أن تتم في العلن، وكان يمكن أن يتفهم الشعب ما حدث لو تم إبلاغه، ولكن الأمر بهذه الصورة يسيء إلى مصر ومكانتها، وللقضاء المصري الشامخ حيث أن تورُّط قلة من رجال القضاء في هذا الأمر يشينهم، ولا بد أن تجري الأمور في النور".

وعما تردّد عن وجود صفقة تحقق مصلحة لمصر، قال: "أي مصلحة في هذا؟ لا توجد أي صفقات سياسية تتم في الخفاء، وإذا كانت هناك صفقة مثل صفقات تبادل الأسرى فيجب أن تتم في العلن وكان يمكن أن يتفهم الشعب المصري ما حدث لو تم إبلاغه بوجود مصلحة له في الأمر، وهو سيتجاوب مع ذلك. الشفافية هي أساس كل شيء حالياً، وانتهي عصر أن تتم الأمور في الخفاء.. والشعب الآن يريد شفافية في كل المواقف حتى يشارك في الأمر".