صحيفة "نيويورك تايمز" التي لم تحب نعوم تشومسكي يوما، قالت عنه إنه "بلا شك أكبر مفكر حي". فهذا اللغوي الذي أحدث انقلابا في مجاله، قد عرف بشكل أوسع عالميا من خلال نقده للسلطة، مستلهما ذلك من التقاليد التحررية، ولأن قلمه لم يضغط على جراح الآخرين. تشومسكي كان في باريس مؤخرا في زيارة قصيرة. وبالنسبة للكثيرين تشومسكي هو ذلك الرجل الذي شدد منذ بضعة أعوام على أنه، مقارنة بالناس العاديين الذين يدعون تمثيلهم والدفاع عنهم، من الممكن أن يكون مثقفو اليسار ضحايا تأخر مقلق تفاقم مؤخرا بصورة ملموسة جدا. فقد لحظ آسفا ما يسميه نزعة اليسار إلى التدمير الذاتي، حيث يشكل اعتناق قسم كبير من ممثليه أفكار "ما بعد الحداثة" عارضا مميزا لهذه النزعة، وهو الذي نوه إلى أنه "توجد قاعدة شعبية لمواجهة المشاكل الإنسانية التي تمثل، منذ أمد طويل، جزءا من "مشروع عصر الأنوار". وأحد العناصر التي تفتقد إليها هو مشاركة مثقفي اليسار كما أن تخليهم عن هذا المشروع هو إشارة لانتصار جديد لثقافة السلطة والامتيازات، يساهم هذا التخلي في ترسيخه".
ويبقى تشومسكي مهاجما لوسائل الإعلام، متهمها بعدم تصويرها الواقع كما هو، وبالتشويه أو التستر باستمرار على بعض الوقائع الهامة، لن يكون طبعا ذا معنى كبير، في حال مسايرتنا لفكرة عدم الوجود الفعلي للوقائع، إنما فقط لتصوير مختلف للواقع.
بالنسبة إلى نمط فكري كان منذ الأساس، بحكم الطبيعة أو التقاليد، ميالا بقوة إلى اتباع هذا المنطق، فإن الإعلان الذي أدلى به منظرو ثورة "ما بعد الحداثة"، عن عدم وجود "وقائع" بشكل فعلي، وبالتالي لا "عالم للوقائع" من شأننا الاهتمام به جديا، قد وصل طبعا إلى نهاياته، ولم يعد من الممكن اعتباره سوى تبرير فلسفي وتشجيع على الاستمرار في الوجهة نفسها.
كان من الممكن، على ما يبدو، لاختبار مدى قدرة دكتاتوريّات القرن العشرين على استبدال الحقائق الموضوعية بحقائق من نسج الخيال لتحقيق أهدافها، وما ترتب على ذلك من عواقب فظيعة، أن يعزز المثقفون في قناعتهم بأن الحقيقة (وإن كان يتعين في غالب الأحيان اللجوء إلى الاختراع للحصول على فرصة للتوصل إلى اكتشافها) لا يمكن أن تكون بالضبط نتيجة عملية خلق أو ابتكار. لكن يبدو، في النهاية، أننا نتوصل إلى نتيجة مختلفة جدا، وهي أن الوقائع في حد ذاتها والحقيقة، هم مبتكرون حقا بطريقة أو بأخرى في كل الأحوال. إضافة إلى "صناعة القبول"، يمكننا إذن الحديث من الآن فصاعدا عن "صناعة للحقيقة"، إلا في حال توضيح بأنه يستحيل، بكل بساطة، تمييز إنتاج الحقيقة عن إنتاج التوافق حول ما يجب الاعتراف به على أنه حقيقة.
من السهل أن نميل إلى الاعتقاد بأنه: إن كان العلماء غير قادرين (أو ليس بعد) على العدول عن استخدام مفهومٍ كمفهوم الحقيقة الموضوعية، يمكن لرجال الأدب، في النهاية، أن يتصوروا بكل سهولة إمكانية التخلي عنه، بما أن ما يهمهم هو فقط الحرية. لكن هذا وهم خطير. وبنظر تشومسكي، لا يمكن للعلوم الإنسانية والاجتماعية أن تسمح لنفسها بالتجاهل أو الاستخفاف تجاه مفهوم الحقيقة الموضوعية، أكثر مما تفعله العلوم الدقيقة. وما من سببٍ للاعتقاد بأنّ التعليم الموضوعي لا يمكن أن يكون مخربا بقدر التعليم المعرف طبيعيا ورسميا بأنه "الراديكالي": "يفاد عموما بأن البحث الموضوعي قادر، في غالبية الأحيان، على إعادة النظر في أطر الفكر السائد. ولا تعتبر وجهة النظر هذه صادرة عن فكر منحرف إلا في العلوم الاجتماعية لكن مهمة تطوير البحث الموضوعي، المتحرر من القيود التي يفرضها الإجماع السياسي الأمريكي، هي أمر حقيقي وأساسي جدا. وأعتقد شخصيا بأنها ستؤدي إلى خلاصات جذرية".
نظرا إلى درجة تعقيد النظريات الاجتماعية والسياسية والفلسفية أو غيرها التي يعتقد عموما بأنه يجب اقتراحها لمعالجة المشاكل، كتلك التي اختار تشومسكي أن يتناولها، من المحتمل جدا أن يعتبر قسم كبير مما يقوله مباشرا بصورة مفرطة نوعا ما، ما قد يعتبره الأشخاص العالمون ساذجا نوعا ما. وإن كان بحاجة لمن يدافع عنه حول هذه النقطة، وهذا ما لا أعتقده، أقول إنه، بصفته عالما ذا شهرة عالمية، فإنه يتمتع بميزةٍ غير اعتيادية تسمح له ألا يسعى ليصور نفسه، حول هذا النوع من المسائل، سوى شخص يعرف القليل من الأمور، بل كمقتنع، في الوقت نفسه، بأنه من غير الممكن على الأرجح، ومن غير الضروري لحسن الحظ، أن يعرف المرء أكثر من ذلك ليكون قادرا على التحرك والحصول على نتائج.
فالسذاجة، حول مسائلٍ من هذا النوع، قد تكون أيضاً نوعاً من النزاهة الفكرية. ولطالما أُعجبتُ بالسذاجة التي برهن عنها تشومسكي حول هذه النقطة والتي يُمكن للكثير من الفلاسفة الاستلهام منها بإفادة، لو كانوا أكثر حساسيةً حيال الخشية من العبثية والأنانيّة. لستُ أكيداً من أنّني قادرٌ على مشاركته تفاؤله تماماً وأمله بالمستقبل. لكنّ ذلك عائدٌ ربما إلى شعوري بأنّه يجب على المرء أن يكون ملتزِماً مثله ليحقّ له فعلياً أن يكون متفائلاً.
لا شك في أن تشومسكي متفائل من طراز آخر كليا. فتفاؤله هو من النوع الذي تولده الإرادة والحركة. ويرتكِز على الفكرة القائلة بأنه، في حال أصبح المستقبل أفضل، فذلك لأننا نكون قد بذلنا، فيما يتعلق بنا، كل ما هو ممكن وضروري ليصبح فعليا كذلك.