تمثل الرياضة جانباً حيوياً مهماً في حياة الشعوب، أفراداً وجماعات على اختلاف درجات وعيهم وتطورهم الحضاري. فالرياضة هي الضلع الثالث في مثلث التكامل الإنساني، العقل والروح والجسد، كما أنها أصبحت اليوم نافذة مفتوحة نطل منها على الجوانب الثقافية لشعوب العالم أجمع. صحيح أن هناك أفراداً لا تهمهم الرياضة من قريب ولا من بعيد إلا أنني لا أظن أن هناك شعباً لا تمثل الرياضة جزءاً من تكوينه النفسي والثقافي. الرياضة اليوم لم تعد مجرد متعة أو تهريج وإضاعة وقت، بل أصبحت فناً وعلماً لا يجيده إلا من يسبر ويتقن تفاصيله استعداداً وتنفيذاً. ويمثل كأس العالم بحق تظاهرة رياضية ثقافية ينتظرها الجميع كل أربع سنوات لنشاهد أين وصلت المجتمعات في اهتمامها بالإنسان وفي تحقيق المتعة والتنافس وما أحرزته دول العالم من تقدم وتطور تعكسه الرياضة وتعرضه بفخر وشغف أمام العالم. إنه عنوان لفعل ثقافي كبير يجتمع حوله الجميع. في كل دورة مع مونديال كأس العالم تظهر التنافسية وتشتد المنافسة حتى غدت الدول جميعها تستعد ليس للمشاركة فيه بفريقها الوطني فحسب بل وأيضاً لاستضافة هذا الحدث الكبير. وفي كل دورة تتحفز طاقاتنا المكبوتة مطلقة العنان لسيل من الآمال والتطلعات علها تتحقق من خلال المشاركة العربية.

لست رياضية من الدرجة الأولى ولكن الرياضة بالنسبة لي حق لا أتنازل عنه كي أصل لمرحلة التوازن الإنساني. كما أن الرياضة بالنسبة لي تتجاوز مجرد التشجيع والمشاهدة لتصل إلى الاستمتاع والشغف والمشاركة "الروحية" على أقل تقدير في ظل حرماننا من المشاركة الجسدية في المناسبات التنافسية العالمية وأهمها كرة القدم والألعاب الأولمبية. فمنذ حفل الافتتاح الممثل لحضارة الأمم الأفريقية "جنوب أفريقيا" المستضيفة لهذه الدورة 2010 وحتى حفل الاختتام الباهر وتتويج إسبانيا ملكة لكرة القدم العالمية مررت بعدد من المشاهد الدرامية والتساؤلات أنقلها اليوم بشيء من التأمل والعفوية:

تخيل لو أن فريقاً عربياً كان منافساً في الدور النهائي! متى ولماذا لا يكون والعالم العربي يكاد يكون محصوراً بشكل أساسي في كرة القدم من بين كل الرياضات ومضت عليه عقود في هذا المجال؟ لا بأس في أن تشطح قليلاً وتتخيل أن المنتخب السعودي كان منافساً لإسبانيا في النهائي بدلاً من هولندا؟ ولم لا وقد حققنا كأس آسيا من قبل. تخيل أن المونديال القادم 2014 ليس في ريودي جانيرو، بل في مصر أو المغرب؟ ولتشطح قليلاً بخيالك وترى أن المونديال القادم سيكون في السعودية؟ لم لا ونحن ننشد الدخول في مصاف العالم الأول!

أما السؤال الذي يظل الأكثر إلحاحاً فهو لماذا تعد هذه الأفكار مجرد شطحات خيال؟ لماذا لا تصبح واقعاً؟ أو كما صدح الشاعر المصري عزيز أباظة يروي قصة السد العالي: كان حلماً فخاطراً فاحتمالا .... ثم أضحى حقيقة لا خيالا. ألسنا من أكثر من ينفق على الرياضة؟ أليست كرة القدم هي الرياضة الأولى في بلادنا؟ ألسنا "خير من ركب المطايا" وأندى العالمين بطون راح؟

الجواب في نظري يكمن في عنصر أساسي في المجتمع الإنساني، ألا وهو أن التنافسية، والتي هي أساس التطوير والإصلاح في مجتمعاتنا العربية، مازالت خارج حدود التحقق على الصعيد العملي، ليس لقلة الموارد، وليس لانعدام القدرات، بل لأن ثقافة الإتقان والاحتراف مازالت وللأسف الشديد بعيدة عن ممارساتنا وسلوكنا. والمشاركة مع العالم في المنافسات الدولية بكل فروعها تتطلب أن يكون مستوى التنافسية لدينا على مستوى متقارب يؤهلنا للدخول في المضمار والاستمرارية فيه.

لقد استطاعت دولة صغيرة نسبياً من دول العالم الثالث مثل جنوب أفريقيا أن تنظم كأس العالم وتبدع في تنفيذه بشهادة أغلب المراقبين. فلماذا اختيرت جنوب أفريقيا باعتبارها أول دولة أفريقية تستضيف المونديال؟ إن وجود المونديال في قارة جديدة خلاف القارات التي اعتاد على الوجود فيها طيلة مسيرته، جاء حتماً لما يحمله البلد المنظم من تمازج ثقافي، وتماهٍ عرقي استطاع مهندسه الأول نيلسون مانديلا أن يبهر العالم به، ولما تتمتع به هذه الدولة من بنية حديثة مستمدة من الواقع والتراث الأفريقي. هذا البلد ليس بلداً أفريقياً عادياً، فهو يتصدر الدول الأفريقية اقتصادياً، ويمتلك بنية تحتية متطورة، ومؤسساته راسخة، وصحافته حرّة، وطبقته الوسطى واسعة ومُتعلمة، ونخبته الصناعية والثقافية منفتحة على العالم.

ما تحتاجه الدول العربية ليس التباهي والغرور، كما أنه ليس البكاء على الأطلال، ما نحتاجه في العالم العربي هو أن نغير من أنفسنا وسلوكنا وثقافتنا، وأن نضع لأنفسنا أهدافاً قابلة للقياس والتحقيق وليس بالضرورة أهدافاً مثالية عالية صعبة المنال. مازلت أتذكر أننا بعد مونديال 2002 خرجنا بخطط وأمانٍ كنت أظن أن ثمان سنوات كافية لتحقيق جزء منها على الأقل. من أكثر الأمور التي أسعدتنا في هذا المونديال وجود الحكم السعودي المونديالي خليل جلال بأدائه الجيد وشخصيته المميزة التي صقلتها التجربة العالمية دون شك. خليل جلال يرى أننا قادرون على تحقيق المزيد، ولكن تنقصنا القدرة على اغتنام الفرص! كما سعدنا أيضاً بليلة النهائي في مقاهي جدة واحتفلنا بفوز الإسبان، وكأننا بهذه المشاركة الوجدانية نستعيد شيئاً من عمقنا التاريخي الضائع في بلاد الأندلس.