قادتني المصادفة يوما إلى المرور بجوار مباني سوق "رمادان" التي أرجعتني إلى تاريخ موغل في القدم، أحسست وقتها أن شعراء العصر الجاهلي يقفون على أطلاله ويستوقفون أصحابهم، ليبكوا على محبوباتهم اللائي هجرنهم مع قبائلهن بحثا عن الكلأ في موطن آخر.
لا أخفيكم أني شعرت بوقع أصوات القوافل التجارية القادمة من الحجاز إلى نجد، التي كانت تحط رحالها في الأزمنة الغابرة، تتردد في المكان، فمبانيه "الطينية" شاهدة على عصور خلت تود من يصغي إليها لتخبره بأخبار القوم وتحكي له قصصا تضاهي قصص ألف ليلة وليلة.
المباني القابعة على أرض مرتفعة، تشكل شبه دائرة لا يتجاوز قطرها 600 متر، وتشبه شيخا كبيرا عارفا ببواطن الأمور، يشكو من فراق أصحابه، وينتظر من يؤنس وحدته، عاتبا على إهماله وعدم سماع نصائحه.
وددت أن أكون أول السامعين لشكواه، فأخبرني بتعرض مبانيه لآلات هدم البلدية في عام 1412، لا ذنب فعله سوى اتهامه بأن العمالة المخالفة لأنظمة العمل والإقامة تأوي إليه، هامسا إلي بشجن، هل حوفظ علي وجددت أركاني لمنعهم أم تركت مشاعا لهم فأعاقب على جريرة غيري؟ محملا إياي رسالة استغاثة بالحفاظ على ما تبقى من آثاره، فرغبة البقاء تسيطر عليه، مضيفا: "لا أود أن أكون في طي النسيان".
تاريخ طويل
وحينما أردت الرحيل التقيت أحد سكان المنطقة، ويدعى مضحي البقمي فاستفسرت منه عن خبر السوق، فأخبرني أن تاريخه ضارب في جذور الزمن، حيث يمتد من العصر الجاهلي حتى عصر صدر الإسلام، لافتا إلى أنه كان محطة رئيسة لمرور القوافل التي تسلك العديد من الطرق التي تجتاز وادي تربة لتلتقي في مركز الثقل التجاري في الجزيرة العربية مكة المكرمة، مكونا شبكة من الطرق سلكها الحجاج بعد ظهور الإسلام.
وأشار إلى أن "رمادان" هو سوق تربة القديم وسمي بهذا الاسم نتيجة للحريق الهائل الذي شب فيه قديما وأتى على جميع مساكنه التي كانت مبنية من سعف النخيل وجريدها وجذوعها ثم بعد ذلك استبدل بالبناء من الطين.
ولم يلبث أن يكمل كلامه إلا وانضم إلينا سعود البقمي، الذي أكد أن تربة تعد من المحافظات الغنية بالآثار، مشيرا إلى أنها لم تجد الاهتمام الكافي من الجهات ذات الاختصاص لإعادة تلك الآثار.
ويبدو أن السوق بعث رسائل بطرق لم أعلمها لأهل المنطقة يستحثهم على البوح لي بما يدور في مكنوناتهم، فاستجاب لها فايح المرزوقي الذي أتى ليخبرني أن تاريخ المحافظة زاخرة بالآثار، مفيدا بأن الإهمال طمس كثيرا من معالمها، مناشدا من خلال "الوطن" الجهات المعنية بالاهتمام بالآثار بتربة والقرى التابعة لها، مبديا رغبة الأهالي في التعاون مع أي جهة من أجل المحافظة عليها وإعادة تأهيلها.
بوابة نجد
وما إن انتهيت من ذلك اللقاء الذي حملني جزءا من المسؤولية على ما آل إليه السوق، حتى توجهت إلى أمين لجنة السياحة والآثار بمحافظة تربة، محمد البقمي، لأنقل له مشاهدتي، فأشار إلى أن تربة تعتبر بوابة نجد ومفتاح الحجاز ومن المحافظات الغنية بالآثار.
وأكد أنه سبق أن أرسل أسماء جميع الآثار التي تم حصرها بالمحافظة والقرى التابعة لها ومن ضمنها سوق رمادان إلى الهيئة العامة للسياحة من أجل المحافظة عليها وإعادة تأهيلها، مبينا أن لديه كروكيا خاصا لسوق رمادان الشهير يساعد في إعادة بنائه.
وتوجهت بعد ذلك إلى رئيس بلدية محافظة تربة، المهندس عبد الله علي مكي، لأتعرف على سبب هدم مباني السوق، فأفاد بأن ما حصل لسوق رمادان الشهير بتربة 1412 من هدم كان في إدارات سابقة، موضحا أن البلدية بررت فعلها حينها بضعف جدرانه, وأنه صار مأوى للعمالة، بناء على توجيهات من الجهات ذات العلاقة.
وكشف أن بلدية تربة على استعداد تام للمساهمة في المحافظة وإعادة تأهيل الآثار بتربة والقرى التابعة لها، وقال" هذا واجب علينا"، مؤكدا حرصه الشخصي على المحافظة على الآثار والاهتمام بها.