اختلف فقهاء المسلمين والمؤرخون حول مفهوم "الحسبة" وأحكامها، فمنهم من قال إنها طلب الأجر من الله تعالى خالصاً في أي عمل يقوم به من دون أجر مادي، والبعض الآخر يرى أن الحسبة ولاية ووظيفة شرعية تلي في المرتبة وظيفة القضاء، إذ إن ولايات رفع المظالم عن الناس عند الفقهاء ثلاث مراتب أقواها ولاية المظالم، تليها ولاية القضاء، وتليها ولاية الحسبة. ويقولون إن المحتسب هو من يعمل بالحسبة بتكليف رسمي مقابل أجر مادي، أما من يعمل بالحسبة تطوعاً وبلا مقابل مادي فيطلق عليه(المطوع).
هذا الاختلاف بين الفقهاء من السهل فهمه، إذ هو نتيجة طبيعية للتطورات والتغيرات التي تحدث في المجتمع، وبالتالي تتغير المفاهيم والأحكام والممارسات أيضاً، لذا من الطبيعي أن نجد مفاهيم ونظريات مختلفة حول "الحسبة". والمتتبع لآراء الفقهاء تاريخياً يستنتج هذا التغيير.
فعلى سبيل المثال يعرف ابن حجر العسقلاني في كتابه فتح الباري أن الحسبة معناها احتساب الأجر عند الله تعالى، ويقول ابن منظور في لسان العرب : " والحسبة: مصدر احتسابك الأجر على الله، تقول فعلته حسبة، واحتسب فيه احتساباً، والاحتساب طلب الأجر.
بينما نجد أن أبو الحسن الماوردي يفرق بين الحسبة والتطوع من تسعة أوجه ذكر منها : أنّ فرضه متعيّن على المحتسب بحكم الولاية، وفرضه على غيره داخل في فروض الكفاية، وأن للمحتسب أن يرتزق على حسبته من بيت المال، ولا يجوز للمتطوّع أن يرتزق على إنكار منكر.
ويتضح مما سبق أن ابن حجر عرّف الحسبة كما عرفت في بادئ الأمر، بينما عرّفها الماوردي بعد أن تغيرت وظيفتها من فعل الخير من دون مقابل طلباً للأجر إلى وظيفة ذات سلطة تشريعية.
والاختلاف لم يقتصر فقط على المفهوم بل شمل أيضاً الاختلاف في وظائف ومهام الحسبة، وهذا مرده أيضاً إلى تغير الظروف والبيئة الاجتماعية، ففي بادئ الأمر كانت هناك جماعة تتجول في الأسواق للكشف عن المخالفات، حسبة ومن دون أجر، وفي عهد الخليفة المهدي بن المنصور تأسست الحسبة كوظيفة لها مهام متعددة لم تقتصر على الأسواق فحسب بل امتدت إلى شؤون الأمن والبلديات، وبهذا الصدد يقول سيد أمير علي في كتابه مختصر تاريخ العرب ما نصه :" أما الشرطة البلدية فكانت برئاسة ضابط خاص يعرف بالمحتسب، وهذا المنصب النافع المهم إنما أنشأه الخليفة المهدي...وكان المحتسب هو المشرف الأعلى على الأسواق والإحصاء العام...وكان يطوف المدينة كل يوم للتأكد من تنفيذ أوامر الشرطة"، ومن يقرأ كتاب الحسبة لابن تيمية يجد للحسبة مهام واختصاصات وصلاحيات واسعة جداً، ثم أخذت هذه الصلاحيات تتقلص أو تكثر بحسب اختلاف الدول، فمن الدول كما بيّن ابن تيمية رحمه الله من توسَّعت في مفهوم ولاية الحسبة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى شملت أموراً عظيمة جداً.
ومنها ما كان أقل من ذلك بحيث إنه أعطى بعض صلاحيات ولاية الحسبة، إما لولاية القضاء، أو لولاية المظالم، أو للشرطة أو لغيرها.
وتأسيساً على ما تقدم نستنتج أن الحسبة تطورت من عمل تطوعي إلى وظيفة بمقابل مالي تضم مهام وصلاحيات متعددة تقوم بها في آن واحد، ومن ثم تحولت إلى اختصاصات منفصلة تقوم بها الولايات والدواوين حسب صلاحياتها. وما يعنينا هنا أن هناك شبه اتفاق على أن الحسبة من مهامها الرئيسية الرقابة والمساءلة على جميع أنماطها وأشكالها.
وفي وقتنا الحاضر تطورت الحسبة ومهامها نتيجة للتغير الاجتماعي وتطور التقنية، فنجد كثيرا من الوزارات الحكومية تقوم بوظائف رئيسية للحسبة تعمل على ضمان وإيجاد رقابة ومساءلة عامة، منها على سبيل المثال: وزارة التجارة والصناعة ودورها في حماية المنافسة وحماية المستهلك ومكافحة الغش التجاري، وأيضاً وزارة الداخلية ودورها في المحافظة على الأمن والسلامة المرورية ومكافحة المخدرات، ومصلحة الجمارك ودورها في الرقابة على السلع والبضائع المستوردة، ووزارة الثقافة والإعلام ودورها في دعم الصحافة في إجراء التحقيقات ومكافحة الفساد، وأيضاً الرئاسة العامة للأرصاد وحماية البيئة ودورها في الرقابة على البيئة والمحافظة على سلامتها، وكذلك هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ودورها في مكافحة الجرائم الأخلاقية.
وهناك الكثير من الأجهزة الحكومية الأخرى التي تقوم بمهام تدخل ضمن مفهوم الحسبة ويصعب إحاطتها بهذه المقالة، ولكن أشير إلى أجهزة أخرى تقوم بالرقابة على هذه الأجهزة فيما يتعلق باختصاصاتها والتأكد من قيامها بمهامها المنوطة بها مثل ديوان المراقبة العامة وهيئة الرقابة والتحقيق، والتي تمثل مفهوما متطوراً وحديثاً لمعنى الحسبة.
فديوان المراقبة العامة من مهامه الرئيسية الرقابة على جميع الأجهزة الحكومية، وهذه الرقابة تكون إما مالية أو إدارية وتشغيلية (أداء)، وذلك من خلال قياس كفاءة وفعالية الجهات الحكومية في تحقيق أهدافها وممارسة اختصاصاتها، لذا فالرقابة هنا تكون رقابة شاملة، فعلى سبيل المثال يتأكد الديوان من قيام وزارة التجارة والصناعة من القيام بدورها في مكافحة الغش التجاري وحماية المستهلك بكفاءة وفعالية، وكذلك بالنسبة لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وباقي الأجهزة الحكومية الأخرى.
والجدير بالذكرأن فقهاء المسلمين وضعوا صفات للمحتسب تتطابق إلى حد كبير مع معايير الرقابة الحكومية، والتي يستلزم تطبيقها على مراقبي الديوان وجميع موظفي أجهزة الدولة منها: الإخلاص والتجرد (معيار الاستقلالية وبذل العناية المهنية) و العلم والحكمة (معيار الكفاءة والتأهيل المهني) ، و الرفق والحلم (قواعد السلوك المهني).
هذه هي آخر التغيرات الحديثة لمفهوم الحسبة والتي سوف تتطور مستقبلاً حسب الظروف والبيئة المحيطة والتطورات التقنية، لذلك أجد من الضروري وجود دراسات وأبحاث متعمقة لحل معضلة تداخل الصلاحيات والمسؤوليات بين الأجهزة الحكومية مثل: التداخل بين ديوان المراقبة وهيئة الرقابة والتحقيق، والتداخل بين وزارة التجارة والبلديات، والتداخل بين الشرطة وهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وباقي الوزارات الأخرى.