بينما كنت وصديقتي نتجاذب أطراف الحديث داخل جدران مقصورتنا بقسم العوائل في أحد مقاهي المدينة المنورة ، فوجئنا بالنادل يطلب منا مغادرة المكان قبل آذان صلاة العشاء بحوالي عشر دقائق ، فالمقهى لا يكتفي فقط بغلق أبوابه في وجه رواد جدد ، ولكنه يلفظ كل من فيه عوائلا وعزابا ونساء ورجالا إلى قارعة الطريق حتى تنتهي الصلاة ! وعلى النساء أن يتدبرن أمرهن خلال وقت إغلاق المقهى المقارب للخمس وأربعين دقيقة ، ولا بأس من افتراش الطريق بطريقة مهينة ، وتكدس النساء مع أطفالهن على الأرصفة ، أو من التسكع جيئة وذهابا على الطريق والتعرض لنظرات من هب ودب ، حتى يحين موعد الدخول إلى (جنة) المقهى من جديد ! المرأة السعيدة الحظ هي التي يتوفر لها سائق رهن إشارتها لا يغادر بسيارته بعد إيصالها لمشوارها ، فستجد على الأقل مقعد سيارة يقيها شدة الحر ولظاه اللافح ، ويضع بينها وبين متطفلي الشوارع ومتسكعيه وجاءً وحائطا ! المرأة أيضا المتيقظة لتفاصيل خصوصيتنا العصماء والماهرة في الالتفاف عليها ستأخذ كافة ألوان الحيطة والاحترازات حتى لا تقع في ورطة من هذه النوعية !
شعرت بالحرج الشديد من صديقتي النمساوية المسلمة فأنا من أوقعها في هذا المأزق ذي الخصوصية الخاصة جدا ، وكان من المفترض أن أجنبها ورطة كهذه فأنا ابنة البلد العارفة والعالمة بالخبايا والأسرار، وهي المقيمة والحديثة العهد بعجائب خصوصيتنا ومفارقاتها ! اعتذرت لصديقتي متذرعة بجهلي وقلة خبرتي بالمقاهي في المدينة المنورة ، فآخر عهدي بها هو السماح بالنساء بالبقاء فيها مع إغلاق الأبواب عليهن حتى يحين موعد الافتتاح ، ويبدو أن الخصوصية تعيد إنتاج نفسها بطرق أكثر تشددا ، لتمعن في إحكام قبضتها على العباد ! ويبدو أيضا أن إخراج رواد المقهى منه وقت الصلاة خصوصية (مدينية) ، فكل مطاعم ومقاهي جدة (غير) تغلق أبوابها وقت الصلاة ، ولكنها لا ترمي بالنازلين فيها من قبل إلى الشارع ، وكذلك الحال في مدينة الرياض. والمقاهي والمطاعم في بلاد العالمين لا تطرد روادها حتى بعد انتهاء ساعات الدوام الرسمية ، وتحاول إعلامهم بطرق لائقة ومهذبة وغير مباشرة بأزوف ساعة الإغلاق.
الخلاصة يا سادة ياكرام إحساسا مني بالمسؤولية نحو صديقتي، قررت ألا استسلم لقدر الارتماء في الشارع ، واستنفرت قواي وشحذت ملكاتي في الإقناع وطلبت مقابلة مدير المقهى وأوضحت له الملابسات. تفهم الرجل الموقف وسمح لنا بالبقاء في المقهى ، محذرا أنها مرة واحدة ووحيدة ولن يسمح بتكرارها ، فهو (عبد المأمور) وسيكون هو من يحصد العواقب في حال اكتشاف أمر سماحه لنساء بالبقاء في المقهى!
وأتساءل : كيف يُرمى بالجوهرة المصونة والدرة المكنونة إلى وعثاء الشارع وقت الصلاة ؟! هل الطرد والرمي من مكان آمن إلى قارعة الطريق ومجاهله يحقق شروط الحماية المزعومة والصيانة المدعاة ؟! وألا يفسر هذا وذاك من عجائبيات خصوصيتنا الإعراض عن السياحة الداخلية ، وكثرة الفارين والفارات للخارج في الصيف -رغم الضائقة المالية التي يمر بها كثير من السعوديين- ليتنفسوا بعضا من الحرية ثم يعودوا لقضبان الخصوصية من جديد ؟!